طارق الشناوي
التهمت بشغف واعجاب كتاب الناقد البحريني الكبير الأستاذ حسن حداد، الذي يرصد الفيلم الغنائي في السينما المصرية، من خلال توثيق جاد ويقظ ومنصف، متحريا الدقة، لنتابع كل التفاصيل، المتعلقة بالفيلم، لا نقرا مجرد معلومة، بل نعيش ظلال الزمن بكل أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
السينما المصرية ينطبق عليها هذا التوصيف، نطقت لكي تغني، ولم تكتف بهذا القدر، بل سيطرت الروح الغنائية على الشريط السينمائي، حتى لو لعب بطولته ممثلين، يظل أقرب لحالة غنائية، وفي العادة يتم اختراع مواقف للبطلة أو البطل ليغني بلاي باك، او يقتنصون فرصة لتقديم أغنية أو رقصة، حتى لو كانت تتعارض مع المنطق الدرامي للحدث الذي نتابعه، لا شيء من الممكن أن يحول دون غناء الأبطال، (جينات) الفيلم المصري لو حللتها لوجدت نفسك أمام حالة غنائية أكثر من كونه حالة سينمائية.
الأسطوانة مهدت الانتشار للهجة المصرية، صار العرب من المحيط للخليج يتعاطون اللهجة عن طريق الاغنية، وهكذا عندما دخلت السينما، كان الجمهور العربي الذي استوعب وأحب الأسطوانات الغنائية لأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش واسمهان، ومن السهل جدا ان يتعاطى مع الفيلم الناطق باللهجة المصرية، ومن هنا كررنا هذا التعبير (وبالمناسبة لم أتأكد حتي كتابة هذه السطور من صحته)، إلا أنه يعطي لنا ملمحا لما كانت عليه السينما المصرية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، هكذا يكررون هذه المعلومة (السينما كانت هي المصدر الاقتصادي الثاني لمصر بعد القطن). الجملة التي في مدلولها المباشر تعلي من شأن السينما، ولكن هل كانت مصر تصدر شيء أخر غير القطن ثم التحقت بالمعادلة الاقتصادية السينما، فلم نكن نصدر شيء اخر ولهذا احتلت السينما المركز الثاني، سألت المؤرخ السينمائي الكبير الأستاذ أحمد الحضري عن حقيقة هذه العبارة، أكد لي أنه نقلها حرفيا عن الفنان الكبير الرائد (يوسف بك وهبي)، واعتبرها صحيحة طالما رددها (يوسف بك)، بطل أول فيلم ناطق في تاريخنا السينمائي (أولاد الذوات) اخراج محمد كريم، وستلمح فيه أيضا رقصة وغنوة شاركت فيها (بديعة مصابني)، صاحبة (كازينو بديعة)، الذي قدم للساحة الفنية المصرية اهم الراقصات والمطربين، أمثال تحية كاريوكا وسامية جمال وفريد الأطرش وإسماعيل ياسين ومحمود شكوكو وعبد المطلب وغيرهم.
(أنشودة الفؤاد) أول فيلم ناطق يتقاسم هذه الصفة مع (أولاد الذوات) 1932، وهو يشكل (أقصد انشودة الفؤاد) منصة الانطلاق الأولي للفيلم الغنائي.
أتيح لي في مطلع التسعينيات أن اشاهده في (معهد العالم العربي) بباريس لأول مرة، وذلك من خلال (بيناللي السينما العربية) الذي كان يعقد مرة كل عامين، وكان هو أول مهرجان يرصد السينما العربية، بعيون فرنسية.
(السينماتيك) الفرنسي حافظ علي تراثنا المصري من الاندثار، الدولة الفرنسية كانت تشترط بعد طبع الفيلم في معامل المركز الفرنسي، أن يمنح المنتج نسخة للأرشيف، كانت كل النسخ المصرية، قد ضاعت ولم يسع أحد للعثور عليها، وقبل أن أرى الفيلم، كان كل مؤرخي السينما في مصر، ينقلون فقط معلومات الفيلم عن القصاصات الصحفية، ولهذا شعرت أنني أمام كنز فني حقيقي، وانا أشاهد النسخة التي حرص (السينماتيك) الفرنسي على ترميمها.
المخرج الإيطالي ماريو فولبي، هو الذي تصدي لتلك التجربة، إيطالي الجنسية يهودي الديانة، المجتمع المصري، كان يمنح الجميع فرصا متساوية، وتمتزج فيه كل الجنسيات فهو نموذج (الكوزمو بوليتان)، المطربة المصرية نادرة أمين وشهرتها (نادرة)، أمها لبنانية ومن أب مصري. نادرة أيضا تعلمت العزف والتلحين، وتصدرت المشهد في الفيلم مع المسرحي المخضرم جورج أبيض، وشارك الملحن المعروف الشيخ زكريا احمد بتلحين كل أغنيات الفيلم، لم يكتف فقط بهذا القدر، لعب دور الشرير في الأحداث، واتصور انه وضع حجر الأساس لشخصية الشرير في السينما المصرية، صاحب الحواجب الكثيفة والنظرة الحادة، والجبين المتضخم الذي ينضح شرا، وظلت تلك هي ملامح الشر الغالبة علي الفيلم المصري عقود من الزمن، متأثرة بمنهج الشيخ زكريا أحمد، ولم يتوقف مؤرخو السينما المصرية كثيرا أمام تلك المعلومة، حضور الشيخ زكريا، كملحن عملاق في تاريخنا الغنائي استحوذ علي كل الأضواء.
وفي العام التالي 1933 ينتج ويلعب محمد عبد الوهاب بطولة أفلامه (الوردة البيضاء) اخراج محمد كريم، ويجب أن نتوقف كثيرا أمام أسم محمد كريم، الرائد الحقيقي للسينما المصرية، أتقن كل مفردات صناعة الفيلم في السينما الناطقة، كما أنه أجاد تقديم الاغنية بمقياس سينمائي، يراعي سرعة إيقاع الزمن، على عكس المخرج ألإيطالي ماريو فولبي، الذي كان يترك الكاميرا تصور المطربة نادرة وهي تغني وكأنها في وصلة حفل وليس شريطا سينمائيا.
فيلم (الوردة البيضاء) يحمل في عمقه أجرأ تجربة أقدم عليها محمد عبد الوهاب في حياته الفنية والشخصية.
الموسيقار الكبير يطلقون عليه (رجل التجربة الثانية)، فهو لا يمكن أن يلحن لمطرب لأول مرة، بل يستمع أولا إلى صوته مع ملحنين أخرين، وبعدها يبدأ هو، حتي في حياته الشخصية تزوج ثلاث مرات، كان هو أيضا الزوج الثاني، في الزوجات الثلاثة، إلا انه قرر ان يكون البطل الأول، والمنتج الأول، لأول فيلم غنائي بطولة رجل وكان هو هذا الرجل، عبد الوهاب يفتقر إلى موهبة الممثل، ولكن الناس تتقبل المطرب، كما هو ولا تنتظر منه ان يقنعها كممثل، بل هناك من الجمهور، من يغادر موقعه في صالة العرض ويدخن سيجارة بعد انتهاء المطرب من الغناء، ثم يعاود الدخول عندما تبدأ الاغنية التالية.
أم كلثوم تأخرت عامين عن عبد الوهاب، حتي توافق على ركوب قطار السينما وقدمت لنا فيلم (وداد) للمخرج الألماني فريتز كرامب 1935، افضل حضور لها كممثلة فيلمي (سلامة) و(فاطمة) وهي مثل عبد الوهاب، لا تجيد التمثيل، ولكن الناس احبت طلتها علي الكاميرا، ترقب الجميع لقاء سينمائي يجمعها مع محمد عبد الوهاب، وكان هذا هو مشروع رجل الاقتصاد طلعت حرب، من خلال (استوديو مصر)، ولكن إصرار أم كلثوم على ان يشارك ألحان عبد الوهاب في الفيلم كل من محمد القصبجي وزكريا احمد ورياض السنباطي، حال دون تنفيذ المشروع، عبد الوهاب أصر علي الانفراد بكل ألحان الفيلم، ومع الأسف خسرت المكتبة الغنائية العربية دويتو غنائي كان من الممكن أن يجمع بين العملاقين أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، عندما سألوا ام كلثوم، قالت أنها كانت تخشى ان يستحوذ عبد الوهاب لنفسه علي الألحان الجميلة، وهذا طبعا مستحيل، لأن عبد الوهاب، سيظل يتحمل مسؤولية اللحن، سواء غناه بصوته أو غنته أم كلثوم.
أم كلثوم لم تكمل مشوارها مع السينما، كما أن عبد الوهاب أيضا اعتزل التمثيل، كانت ام كلثوم قد أصيبت بالغدة الدرقية التي تؤدي إلى جحوظ العينين، مما يجعل اللقطات القريبة مستحيلة، كما أن ضعف نظر عبد الوهاب دفع به للاعتزال، وان كنت أري، أن السبب الحقيقي، لاعتزال عبد الوهاب، أنه وجد أن أفلام فريد الأطرش ثم محمد فوزي تحقق إيرادات أكبر، فاكتفي بالإنتاج، وفي مطلع الخمسينيات، أنتج أفلاما بطولة ابن شقيقه سعد عبد الوهاب، وبعد ذلك شارك عبد الحليم من خلال شركة (صوت الفن)، انتاج أفلام عبد الحليم الغنائية.
السينما تغني خارج الأسطوانة نجوم الفيلم الغنائي

نشر في: 17 يوليو, 2025: 12:03 ص









