أحمد حسن
في تصريح لافت من حيث التوقيت والإشارات قال علي لاريجاني أحد أبرز الوجوه الإيرانية ذات العمق الاستراتيجي ومستشار المرشد أن "شرقا أوسط جديدا" آخذ بالتشكل لا على صورة المشروع الأمريكي ـ الإسرائيلي كما أراده جورج بوش ثم تبناه ترامب بل وفق معادلة "المقاومة والاستقلال" مستندا إلى دماء الشهداء وخبرة الميدان. حسب تعبيره في الفارسية.
ولفهم هذا الخطاب لا يكفي أن نأخذه كتصريح سياسي بل يجب أن نخضعه للتحليل وبالتالي الذي يقوله لاريجاني؟ ما الذي يسكت عنه؟ وما الذي يمكن أن نعيد تركيبه من هذا الخطاب؟.
لو نظرنا إلى مطلع الألفية فقد تكرر مصطلح "الشرق الأوسط الجديد" على ألسنة الاستراتيجيين الغربيين لا سيما الأمريكيين و صاغته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس سنة 2006 على أنقاض حرب تموز بين لبنان وإسرائيل. وتم تفعيله في العراق وسوريا وليبيا من خلال آلية مزدوجة تفكيك الدولة الوطنية وإعادة إنتاجها ضمن أطر تابعة سياسيا واقتصاديا.
غير أن النسخة الإيرانية من هذا المشروع تنقلب عليه فهي لا تنكر التحول بل تعيد تفسيره على ضوء سردية المقاومة فبدل أن يكون "شرقا أوسط أمريكيا" فهو شرق مقاوم لا يصاغ في مكاتب البنتاغون بل في ساحات المواجهة تشمل غزة، جنوب لبنان، والعراق، واليمن وايران. وان وجهة نظر لهذا الطرح لا يمكن رفضه دفعة واحدة بل يجب أن نخضعه للسؤال الأول هل توجد بالفعل معالم لـ" شرق أوسط جديد" قيد التشكل؟.
وهنا لو نظرنا إلى إعادة توزيع القوة نلاحظ أن التحالفات تغيرت هناك تركياـ قطر ـ إيران ـ روسيا من جهة، والولايات المتحدة ـ إسرائيل ـ الخليج ـ أوروبا من جهة أخرى. ولم تعد واشنطن وحدها تمسك بخيوط اللعبة.
لذلك في قلب خطاب لاريجاني يكمن تعارض واضح بين الفكر الرجعي (المقصود به الغرب وإسرائيل حسب خطابه) و "الفكر المقاوم". لكنه لا يكتفي بالمواجهة العسكرية أو السياسية بل يجعل منها صراعًا أنطولوجيًا بين فكر ينتج الحرب من أجل السيطرة، وآخر ينتج الدم من أجل التحرر والكرامة. لكن هنا نتسأل، أليست كل المشاريع الكبرى تدعي امتلاك بعد أخلاقي؟.
إن المشروع الأمريكي لم يقدم على أنه احتلال بل كـ "تحرير ديمقراطي" والمشروع الإيراني لا يقدم كتمدد جيوـ ديني بل كـ"دفاع عن المستضعفين". وهنا يدخل العامل الحاسم نتائج هذه المشاريع وبحسب لاريجاني أن فشل مشروع ترامب في إخضاع إيران وغزة ولبنان. لكن من منظور آخر يمكن أن يقال إن مشروع إيران في اليمن وسوريا والعراق كلف شعوب هذه البلدان دمارا طويلًا.
إذًا لا بد من تقييم المشاريع من حيث النتائج لا النوايا. ويركز لاريجاني على أن أمريكا فشلت في فرض السلام بالقوة. هذه الحجة تتوافق مع التحليل الواقعي للسياسة الدولية إذ لا يمكن إخضاع شعوب بأكملها بالإكراه. لكن بالمقابل، هل يمكن بناء "نظام مقاوم" فقط عبر الدماء؟ هل الدم كافٍ لصياغة توازنات دولية مستدامة؟ أم أن المقاومة تحتاج بالإضافة إلى التضحية لرؤية سياسية واقتصادية وثقافية تُؤسس للنظام الجديد؟. وفي فكر مؤسس السيسولولوحيا الحديثة ماكس فيبر فالشرعية لا تنتج فقط عبر الكاريزما الثورية بل عبر العقلنة السياسية والمؤسسات. فهل تمتلك القوى المقاومة (من إيران إلى حزب الله إلى الحشد الشعبي في العراق إلى أنصار الله.. إلى آخره) هذه البنية العقلانية المستدامة؟ أم أننا لا نزال في دوّامة النصر الرمزي والهزيمة التنموية؟.
لاريجاني يؤسس منطقه على نفي منطق ترامب "أمريكا لم تنجح". . إذًا مشروع المقاومة انتصر. لكن علينا التذكير بأن الفشل الأمريكي لا يعني بالضرورة نجاحا استراتيجيا للطرف الآخر وقد يكون مجرد تعادل سلبي بصورة حسابية " لا سلام، ولا استسلام" أي فقط استمرار للحرب. وفق هذا التفسير كان يتطلب دليلًا إيجابيا تبين فيها اجوبة عن اسئلة ما هي معالم هذا الشرق الجديد؟ ما مؤسساته؟ ما اقتصادياته؟ ما نموذجه؟ هل هو مجرد غياب للغرب؟ أم حضور لنموذج بديل؟.
وطبعا إلى الآن يبدو أن الخطاب المقاوم يظل في منطقة الردع الرمزي لا البناء البنيوي. والشرق الجديد كي لا يكون نسخة مقلوبة عن الغرب يحتاج إلى صياغة سردية عقلانية، مدنية، متقدمة، توازن بين دماء الشهداء وعقول النخب الفكرية والعلمية وغيرهم. ومع ذلك تقول إحدى مقولات مدرسة فرانكفورت "أن تكون مقاوما لا يعني بالضرورة أن تكون حرًا". وفي ضوء هذا فإن استقلال الشرق الأوسط لا يقاس فقط بالخروج من الهيمنة الغربية بل بالخروج من منطق القسر والتبعية والتقديس الأيديولوجي داخليًا. إن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" كما يراه لاريجاني مشروع جدير بالتأمل لكن حتى الآن يظل ناقصا من جهة الرؤية الشاملة والمؤسسية. ولقد شخص المرض الأمريكي ـ الإسرائيلي بدقة لكنه لم يقدم وصفة بديلة مقنعة بعد وبالتالي فإن الخطاب المقاوم اليوم أمامه تحديان وهما أن يثبت عقلانية وجوده لا فقط عدالة قضيته من جهة وأن يعيد إنتاج نفسه كـ"مشروع بناء" لا فقط كـ "رد على مشروع هيمنة" من جهة اخرى.










