TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قتلى الكوت.. وأوائل المعزين حيتان الفساد!

قتلى الكوت.. وأوائل المعزين حيتان الفساد!

نشر في: 20 يوليو, 2025: 12:04 ص

رشيد الخيُّون

عندما نقرأ البيتين التَّاليين في الفساد نقرأهما للتسلية: "مرَّ الجرادُ على زرعي فقلت له/ الزمْ طريقك لا تولعْ بإفسادِ/ فقال منهم خطيبٌ فوقَ سُنبلةٍ/ إنّا على سفرٍ لا بدّ مِن زادِ". يقول الجاحظ(تـ: 255هـ): قالهما "أعرابي مِن بني حنيفة، وهو يمزح"(البيان والتَّبيين). مع أنَّها حقيقة مفجعة، يجرد الجراد، والاسم منحوت مِن الفعل، الزَّرع المؤمل، فتكون عام رمادة ثانية(18هـ)، كان الرّماد فيها يملأ الأفواه بدل الطّعام والماء.
أحسبُ أنَّ الفاسدين أنفسهم يتداولون هذين البيتين للفكاهةِ والمزحِ، ولا إحساس بمَا يُرتقب مِن جوعٍ كافرٍ؛ بعد موسم الجراد الظَّالم؛ لكنَّ للجراد موسماً، وينفع صيده طعاماً، أما جراد العراق اليوم الفصول كافة مواسمه؛ وما كارثة الكوت إلا ثمرة مِن ثماره في (17/7/2025)، وهو يوم مشهود يتذكره العراقيون.
منذ نحو ثلاثة وعشرين عاماً؛ مَن يقرأ البيتين أو يسمع بهما، يتذكر العِراق، وقصص الفساد الخياليّة، يعجز عن تأليفها أمهر القصاصين؛ أن تضيع ستمئةُ مليارِ دولارٍ، ولا يعرف أيُّ بنك مِن بنوك الجار الجنب حواها. كنا نظن أنَّ الفسادَ لا يؤدي إلى الموت الجماعيّ وبهذه الوتيرة المتواصبة منذ عقدين مِن الزَّمن، غير أنَّ للفساد العراقي خاصيةً، تترجمه أدوات الموت بلا تأجيل.
إنَّه مدرسةٌ جديدةٌ، اخترعتها الجماعات الدِّينية، وسُجلت البراءة باسمها؛ لا تدخل رقم المليون في حساباتها لاحتقاره؛ تفتح فصولها لأرقام المليارات المهولة؛ وبدأ تطبيق الاختراع بمقولة "مجهول المالك"، وقبله تطبيق "الذّوبان في الخميني"، فإذابة الأوطان مِن أشدِّ الفسادات، وتشريع الخيانات؛ كلُّ حزبه مدَّ أنبوبه إلى البحر، وباع حصته، حتَّى نشب العراك على وزارة النِّفط، أيّ عِمامةٍ تتملكها. كان أوضح نموذج للفساد الطّاغي: يُعرض مشروعُ تشييد جسرٍ، يباع المشروع وهو على الورق إلى آخر، والآخر يبيعه إلى آخر وهكذا، يتداوله الفاسون في بورصاتهم؛ أما النتيجة لا وجود للجسر.
تجده أخطر ملفاً، تشارك فيه أحزاب وأجهزة ودول؛ خرج وزير صحة سابق ناصع الضَّمير، قُدّمَ له مشروع شراء أجهزة طبية بمئتي مليون دولار، ولما عمل بحثه، وجد سعرها خمسة عشر مليوناً، لكنه لم يستطع التأثير، فاضطر إلى الاستعفاء. وصلت في وزارة دعوية، أجهزة كاشفة للمتفجرات، فظهرت أنها تُرشد المفجرين إلى الضَّحايا الأكثر. يطول الحديث عن الفساد العِراقيّ ويطول جداً.
عودة إلى بدئه، كان الجو خانقاً، فجذب النّاس المول(هايبر ماركت) المفتوح قبل أسبوع فقط، بخمسة طوابق؛ انفجر جهاز تكييف وشب حريق، ولأنَّ (هايبر)- السلام على فخامة الاسم وحداثته- كان خالياً مِن وسائل السَّلامة، قضى نحب من قضى، والأموات يتزايدون؛ وثمن السعر، سعر الضحية الواحدة عشرة ملايين دينار، أقل مِن مصاريف جلسة موكب في المنطقة الخضراء، يقيمه أمين حزب الدَّعوة.
كانت كارثة الكوت مِن ثمرات الفساد، وهي المحافظة الجنوبيَّة، التي شُيدت بحدود واسط، التي بناها الحجَّاج بن يوسف الثّقفي(تـ: 95هـ)، أراد بها التّوسط بين الكوفة والبصرة، وهو أمير العراق؛ أنستها هذه الحادثة السِّجن المفتوح للحر والبرد، واستحداث سجن النساء أول مرة بها في عهده، ومع قسوته وجبروته، لم يكن الحجَّاج فاسداً بالمال، ليس صاحب أطيان ولا قصور.
أما ما يجري بالعراق اليوم يجمع بين القسوة والفساد؛ والعمالة المفضوحة باسم "الولاية"؛ فكم قاضٍ سقط قتيلاً برصاص الفاسدين؟ وللحفاظ على الفاسدين قُتل المتظاهرون (2019)، فشعارهم كان "نريد وطناً" ومع الفساد والنُّفوذ الولائي الحامي للفساد، لا يكون وطناً؛ فالصَّوت الهادر مِن أفواه المتظاهرين كان لوقف الفساد؛ وها هي النَّتيجة، أن يحترق ويخنتق بطرفة عين سبعون مواطناً والعدد في تزايد، وبينهم أسر فنيت كاملةً. فكم الرُّشى التي دفعها صاحب (هايبر)؛ لأخذ شهادة سلامة المبنى؟
كم من كارثة أسدل عليها السّتار؛ يهرب قادة داعش مِن سجون بغداد، وما هي إلا أيام ويحتلون الموصل، والثَّمن هو خلق عذر لتشكيل الحرس الثوري فرع العِراق، وألف وسبعمائة شاب يذبحون في سبايكر، ويُفجر المرقد بسامراء في ليلة قمراء، كي يُخلق العذر بتثوير الطَّائفية، ويغلق التَّحقيق.
أ رأيتم مواساة حيتان الفساد؟ وأنا أشاهد مواساتهم تذكرتُ مزاح المُزارع عندما ناشد الجراد! فهؤلاء يمزحون بمواساتهم. قام الفاسدون كافة بالمواسات، وهم قتلة الشَّباب المتظاهرين، ولم يبقوا زاوية لم يفسدوا فيها ويعبثوا مِن بنك الزوية إلى مول الكوت؛ لكن أبلغ سخرية بينهم مَن قال: "أعزي المهدي المنتظر"! قيلت العبارة نفسها بغرقى جسر الأئمة(2006)، وستقال في الكوارث القادمة كافة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram