(الجزء الثاني) غي هارشير ترجمة: رشا الصباغالنظام الوئاميّ: أبرم نابليون في عام 1801 إذن معاهدة مع الفاتيكان. وقد أُعلنت هذه المعاهدة، التي استُكملت بـ (موادّ أساسيّة)، رسميّاً في عام 1802، كان النظام الوئاميّ يتعلّق بالدرجة الأولى بالديانة الكاثوليكيّة، ولكنه شمل كذلك العبادتين البروتستانتيّتين (اللوثريّة والكالفينيّة)، بالإضافة إلى الديانة اليهوديّة.
أمّا العبادات الأخرى فقد تمّ غضّ النظر عنها، دون أن يُعترف بها رسميّاً، على غرار اللامبالاة الدينيّة، بل الإلحاد. لم تعُدْ الكاثوليكيّة، (وهي ديانة الغالبيّة العظمى من الفرنسيّين)، دين دولة (عادت لتصبح كذلك في عام 1814، ثم فقدت هذا الوضع من جديد في عام 1830)، إلاّ أنّ الدولة كانت تقدّم لها الدّعم، وتسمّي الأساقفة الذين كانوا يقسمون يمين الولاء للحكومة (ثم يمنحهم البابا في ما بعد الشرعيّة الكنسيّة لسلطاتهم الروحيّة)، وكان يتمّ تعيين الكهنة بدورهم من قبل الأساقفة، ولكن بموافقة الحكومة، حيث يقسمون كذلك يمين الإخلاص للسلطة المدنيّة. قَبِل البابا النزول للدولة عن أملاك الكنيسة، وكتعويض، أخذت الحكومة تدفع مرتّبات للأساقفة والكهنة؛ وسمحت فضلاً عن ذلك بوقف الأموال لصالح الكنائس، كانت الكنيسة إذن، دون أن تكون كنيسة دولة، تحظى باعتراف رسميّ، ولكن الدولة بالمقابل كانت تتحكّم بطريقة صارمة إلى حدّ ما بتنظيمها ونشاطاتها. كما بدأ رجال الدين البروتستانت يتلقّون أيضاً أجوراً.rnأمّا العبادة اليهوديّة فقد نُظِّمت بقانون صدر في عام 1808، غير أنّ كهنتها لم يتقاضوا مرتّبات إلاّ في عهد ملكيّة تموز/ يوليو، ولسوف نرى على امتداد هذه الدراسة أنّ المساواة بين الناس في ما يتعلّق بالأخلاق ليست مفروضة آليّاً عبر تأكيد حريّة الضمير، أي عبر نبذ مبدأ compelle intrare (أرغمهم على الدخول) في الكنيسة): ذلك أنّ أي دين يستطيع الحفاظ على امتيازات خاصّة تجاه المعتقدات الأخرى، وإن بدا أنّ تلك الأخيرة تتمتّع بحريّة مطلقة. فما زالت الأنغليكانيّة حتى اليوم ديانة (رسميّة مقرّرة) في بريطانيا العظمى (الملكة هي رأس الكنيسة)، واللوثريّة في الدانمارك، مهماً بدا عليه ذلك من المفارقة، هي دين دولة3. وسيشكّل الصراع في فرنسا، خلال القرن التاسع عشر، ضدّ احتلال الكاثوليكيّة لموقع ذي امتياز (وخصوصاً في حقل التعليم) رغم نظام حريّة الضمير والمساواة الرسميّة بين العبادات المعترف بها، سيشكّل المحرِّكَ الدافعَ لحركة العلمنة: فالدولة ليست بعد دولة الشعب laos كلّه ما دام ثمّة مِلّة، لم تعد، بالطبع، تُفرض على المتمرّدين عن طريق السلطة الزمنيّة للسياسة، تحوز دستوريّاً موقعاً مهيمناً.. أجل، إنّ المشكلة كلّها ستتركّّز على التساؤل فيما إذا كانت الدولة قد أصبحت (علمانيّة) عندما اعترفت بالعبادات المختلفة دونما تمييز، أو أنّه من الضروريّ إقامة فصلٍ حقيقيٍّ بين المذاهب المختلفة من جهة، والمجال العامّ من جهة أخرى، وقد ارتكزت خاصيّة العلمانيّة (على الطريقة الفرنسيّة)، في بداية القرن العشرين، على الدفاع عن وجهة النظر الأخيرة تلك، إنّ تصوّراً أكثر (تعدّدية)- بإمكان النظام الوئاميّ أن يعطي عنه نموذجاً تقريبيّاً- تعترف الدولة بموجبه بالعبادات المختلفة وتقدّم لها المساعدة بطريقة أو بأخرى، بعيداً عن فكرة (العلمانيّة الفصليّة) كلَّ البعد، غير أنّ هذا التصوّر سيسعى إلى (إعادة) اختراق العلمانيّة الفرنسيّة، التي تواجه مشكلات نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، في صورة متطلّبات (علمانيّة جديدة).في فترة إعادة الملكيّة، ستعزّز الكنيسة، كما سنرى بالنسبة لمسألة المدرسة، نفوذها في الجامعة، وسوف تزداد الأهميّة السياسيّة للكاثوليكيّة في ظلّ الامبراطوريّة الثانية مع انضمام الكاردينالات إلى عضوية مجلس الشيوخ بحكم القانون، إنّ معرفة ما إذا كان النظام الوئاميّ يمثّل، كما يؤكِّد جان بوبيرو، (علمنة أوَّليّة) للمجتمع، تبقى مسألة خلافيّة، غير أنّ عناصر ثلاثة تحدّد بالنسبة لبوبيرو هذه (العتبة) الأولى:1- التجزئة المؤسّساتيّة: لم يعد الدين مؤسّسة شاملة، كما تتمتّع الدولة والمجتمع بتماسك واستقرار مستقلّين عن أيّة مرجعيّة دينيّة.2- الاعتراف بالشرعيّة: هناك (حاجات دينيّة) موضوعيّة من الناحية الاجتماعيّة، تتكفّل بها مؤسّسات دينيّة مختلفة، "الديانات المعترف بها".3- تعدّد العبادات المعترف بها: الدولة غير مؤهّلة لفرض معتقدات دينيّة بالمعنى الحقيقيّ.. جميع الديانات المعترف بها متساوية قانونيّاً؛ يمكن لها أن تتعايش بسلام في المجتمع وتساهم في تمتين النسيج الاجتماعيّ. بل إنّه بالإمكان الاستغناء عن "الأسرار المقدسة".(الدين هو..."داخل الدولة" بينما لم تعُدْ الدولة داخل الدين).يبدو لي في الواقع أنّ بوبيرو يشدّد بصورة خاصّة على التحرّك العامّ الذي خسر الدين من جرّائه موقعه المهيمن في المجتمع: إنّه (مجزّأ مؤسّساتياً) بمعنى أنّه لم يعُدْ يغطّي، افتراضيّاً، مجالات الحياة الإنسانيّة كافّة ؛ فقد خرجت غالبيّة الخدمات العامّة من يده بالتدريج (ستكون هذه، بامتياز، حال المدرسة اعتباراً من ثمانينات القرن العشرين، ولكنها كانت آنئذ مسألة الأحوال المدنيّة)؛ المساواة، الشكلّية على الأقلّ، مع الديانا
العلمانية
نشر في: 6 مارس, 2011: 05:35 م