عواد ناصر"درجة الاتقاد" هو القانون الفيزيائي الوحيد الذي فهمته وحفظته من أيام دراستي المتوسطة، في الثانوية الجعفرية (بغداد – ساحة النهضة) وهي الدرجة التي تشتعل فيها الأشياء.الشعب العراقي، هذه الأيام، في طريقه إلى أن يبلغ درجة الاتقاد، وهو أمر يخص الطبيعة البشرية التي تبلغ حداً معيناً من التحمل، فإما أن تنفجر أو تخمد.
العراقيون، أعرفهم قوماً متوهجين، غليظي الطباع، وربما عنيفين (كما يقول عنهم الأشقاء العرب) لكنهم قوم منفردو الشخصية، فهم طليقوا السريرة، غضباً أو سعادة أو رقصاً، عندما يكونون منفردين، او ضمن جماعة خاصة، صغيرة، تحفظ الأمانات بالمجالس، لكنهم يفتقدون الخاصية الجمعية التي تؤهلهم للعمل المشترك، على أن "اجتماع" ضباط الانقلابات المتكررة في العراق وحده كان ينجح في إسقاط حكومة وتشكيل حكومة أسوأ من سابقتها، ونجح النظام السابق في حجر أناس خلف حناجرهم لكنه لم يحجر وعيهم، رغم أسباب الحجر والقمع والعسف، كلها، وإن استتب له الأمر إلى حين، مما سهل عليه تفتيت الوحدة الاجتماعية بدءاً بتفتيت العائلة العراقية عندما شجع فرداً أو أكثر للمراقبة والوشاية بأفرادها الآخرين.نعم، ثمة انتفاضات كبرى هزت العراق في أربعيناته وخمسيناته، وهي معروفة في التاريخ والاسم واليوم وعدد الشهداء ونوع المطالب ومآل التحرك الشعبي، الذي أسقط حكومات منها حكومة نوري السعيد، لكن هذا الشعب كف عن العودة إلى الذنب الجماهيري منذ نجح البعثيون (منذ 8 شباط 1963) في انقلابهم الأول في ترويضه تدريجاً حتلى قَبِلَهم في الانقلاب الثاني في 17 تموز (يوليو) 1968.. أي ليست ثمة انتفاضات لاحقة بعد هذا التاريخ (باستثناء انتفاضة آذار (مارس) 1991 التي يصر البعض على تسميتها بـ "الانتفاضة الشعبانية" لكي يكسبها هوية طائفية كانت من بين أسباب مقتلها).هذه الانتفاضة كان يمكن أن تثمر عن نتائج مختلفة لو اتسع أفقها السياسي الوطني وتخلت عن طبيعتها الطائفية/ الدينية التي سوغت للنظام الحاكم أساليب قمعها العنيفة، فذلك الضابط الذي أشعل الانتفاضة بعد عودته، مع جنوده المهزومين بعد احتلال الكويت، لم يكن سياسياً "مؤدلجاً" ولا طائفياً "مدفوعاً بل هو مواطن عراقي فاض به كيل الحروب والخسائر العسكرية، وربما الشخصية – وهي لا تنفصل عن الاجتماعية، لكن سرعان ما دخلت قوى إقليمية حرّفت الانتفاضة عن مسارها المحلي لتتحدث لغة أخرى، وبالمناسبة كنت في القامشلي أقابل النازحين العراقيين، وقتها، وأدوّن "إفاداتهم" عما جرى برعاية سوريّة كريمة، ودعم رسمي لمجموعتنا (عامر بدر حسون وعصام الخفاجي وكاتب الحروف)، لكنني في واحدة من صفناتي السياسية تبينت أن تاريخ دمشق/ بغداد هو سلسلة متواصلة من دعم سوري يمتد منذ ثورة عبد الوهاب الشواف حتى يومنا هذا وعبر الحدود نفسها والوسائل نفسها مع اختلاف تكنيكي يتلاءم مع مستجدات السياسة والتكنولوجيا المعاصرة!ضحك زميلاي كثيراً، ونحن نستمع إلى راديو "صوت أمريكا" وهو يقول: "يبدو (نعم، يبدو) أن لا أحد في العراق قادر على إسقاط الرئيس العراقي صدام حسين"! إذ علقت: "يبدو؟" إن الآلاف الذين ألقوا بأجسادهم من الإيرانيين على ألغام العراق، أبان الحرب، وأمريكا، بعد حرب الخليج، والانتفاضة (الشعبانية أو الآذارية) لم تسقطه، ومؤامرات عسكرية عدة من داخل النظام، فأي برودة قلب وعقل تصدرون عنها لتقولوا "يبدو!ّ"؟.عند سقوط التمثال الشهير (تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس) وصاروا يسمونه (سقوط الصنم) وهي تسمية أخرى "إسلامية" حيث مسلمو النبي محمد أطاحوا بالأصنام.. شعر أغلبية العراقيين المتضررين من حكم صدام حسين بالسعادة، طبعاً، حيث قوة "إلهية" أسقطته، استجابة لدعاء الإمهات (!) لأننا لم نستطع، ببرامجنا وبياناتنا وصحفنا وأحزابنا كلها، أن نفعل ذلك، بسبب فشل ثقافة الآيديولديات التقليدية (يسارية ويمينية وقومية وإسلامية) في بلدنا، حتى أن التمثال، نفسه، قاوم السقوط بدبابة أمريكية، لساعة أو نحوها، لكنه سقط في النهاية، ولكم يحز في نفسي حتى اللحظة أنه سقط بأيد غير عراقيّة.انتفاضات خجولة انطلقت في عدد من مدن العراق، وقريباً من بغداد (الحسينية)، لكن الشباب العراقيين ينتفضون في الفيس بوك والتويتر والهوتميل، حيث غياب الخدمات وفرص العمل ونقص – لا ضعف - الروح الوطنية التي جرى امتصاصها، طائفياً وقبلياً، لم تعد تكفي لاندلاع انتفاضة عراقية لم تبلغ درجة الاتقاد.السيد نوري الثاني، رئيس الوزراء، خرج بتصريح غريب وهو يتحدث عن انتفاضة المصريين بأنه لم يرشح لولاية ثالثة.. فهل الأمر يتعلق برجفة سياسية انتابت معالي الرئيس جراء ما يحدث في وادي النيل؟الناس تعرف أن الزعماء يكذبون. كلهم قالوا لن نترشح وترشحوا.. لأن الكرسي والحاكم توأم سيامي.أبو إسراء يتميز ببساطة الغامض وغموض البسيط، فهو القادم من كفاح العمل السري والعائلة المتوسطة والموظف الصغير (سابقاً)، والمنتهك سياسياُ، كمعارض لنظام بلده، والمنهك وظيفياً جراء ما يحدث اليوم في العراق الذي يقوده، رئيساً للوزراء، ومركبه في بحر من أمواج عاصفة يهيجها أعداؤه وأصدقاؤه، ب
العراقيون ليسوا شيعة وسنة وأكراداً.. انتفاضة عراقية دون درجة الاتّقاد
نشر في: 6 مارس, 2011: 05:37 م