جيروم شابويزا
ترجمة: عدوية الهلالي
بعد حقبة بارزة في الخمسينيات من القرن الماضي، فشلت منطقة الأهوار العراقية الجنوبية، في الحصول على اهتمام كبير خلال المبادرة العالمية لحماية الأراضي الرطبة الساحلية على الرغم من إنشاء اتفاقية رامسار التي تهدف إلى حماية مثل هذه المناطق في وقت مبكر من عام 1972، ثم انضم العراق إلى الاتفاقية في عام 2007، وسجل رسميًا منطقة الأهوار في عام 2008. كما سهلت هذه الخطوة الحاسمة اعتراف اليونسكو بالموقع كموقع للتراث العالمي في عام 2016.
لم تعترف اليونسكو بالقيمة الاستثنائية للمنطقة البيئية فحسب، بل صنفتها أيضًا كموقع للتراث الطبيعي والثقافي. وتركز التسمية بشكل خاص على الأهوار الأربعة الرئيسية وتتضمن بقايا المدن القديمة الثلاث المهمة - أريدو، وأور، وأوروك - التي يعود تاريخها إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد، مما يشكل بيئة حيوية ثقافية بيئية متماسكة. وللأسف، منذ عام 1980، أعاقت أكثر من أربعين سنة من الصراع الذي أعقبه عدم الاستقرار الداخلي لفترة طويلة منطقة الأهوار العراقية الجنوبية من تنفيذ التدابير اللازمة للحفاظ على البيئة وتحسينها وتنميتها.
وتشكل الظروف المناخية سببا للقلق الكبير. ووفقا لخبراء من الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، فإن العراق، وخاصة جنوب العراق، يقع بين المناطق الخمس الأكثر تأثرا بالاحتباس الحراري في العالم. وأكد تقرير صدر في أيار عام 2022 في مجلة "سياسة الطاقة" امتلاك العراق لأكثر من عشر منشآت رئيسية للوقود الأحفوري، وجميعها تقع على مقربة من الأهوار، مما يشكل "قنابل مناخية" محملة بانبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
من منظور التربة، يتضمن تكوين التربة في المنطقة البيئية مزيجًا من الرواسب الغرينية التي خلفتها الأنهار والتربة الأصلية التي تتكون أساسًا من الرمال الطينية، الخالية من الحجارة أو الصخور أو الأشجار.وتزدهر أنواع نباتية مختلفة في هذه البيئة، ولا سيما شجرة النخيل، وهي شجرة مثالية ترمز إلى جنوب العراق. ومن منظور مورفولوجي، تتكون المنطقة البيئية للأهوار من ثلاثة مكونات متميزة: مناطق مائية حصرية تتميز بالمياه العذبة قليلة الملوحة أو المالحة؛ المناطق المختلطة أو شبه المائية، إلى جانب الأنشطة والمواقع الأثرية المختلفة. ويشكل هذا الكيان المتماسك منطقة برمائية تعرضت لفترة طويلة لتقلبات الأنهار.
تقع منطقة الأهوار البيئية داخل منطقة شبه استوائية شبه صحراوية، وتشهد الحد الأدنى من هطول الأمطار المحلية، ويتفاقم ذلك بسبب تصاعد معدلات التبخر، والتي تقدر حاليًا بحوالي 75 مترًا مكعبًا في الثانية. ونتيجة لذلك، فإن التربة تجف تدريجياً وتصبح مالحة بشكل متزايد، في حين يمتد تأثير المد والجزر لبحر الخليج إلى الجنوب على طول نهر الفرات.وترتبط إمدادات المياه العذبة إلى الأهوار بشكل أساسي على نهرين ينبعان من جبال تركيا وإيران. وتُظهر هذه الأنهار تاريخياً نظام هطول الأمطار بسبب مناطقها الأصلية. هذه الخاصية جعلت الأهوار منذ فترة طويلة أهم الأراضي الرطبة الساحلية عبر غرب أوراسيا، مما جعل العراق منطقة تتمتع تاريخياً بموارد مائية وفيرة.
ومن ثم، فإن الأنهار لها أهمية قصوى بالنسبة للتنوع البيولوجي، وخاصة من الناحية البيولوجية، كما يعترف المعدان، سكان الأهوار. وتؤوي الأهوار مستعمرات واسعة من الطيور المستوطنة والمهاجرة، إلى جانب قطعان كبيرة من جاموس الماء، وهي جزء لا يتجزأ من الحفاظ على هذا النظام البيئي والحفاظ عليه. بالإضافة إلى ذلك، تمتلئ الأنهار بمياه ضحلة من الأسماك، مما يشكل عنصرًا أساسيًا في النظام الغذائي التقليدي للسكان المحليين.
ومن حيث الغلاف النباتي، تتميز الأهوار بوفرة أحواض القصب، التي كانت تستخدم تاريخيًا لبناء المنازل والقوارب،وهو ضروري للكتابة المسمارية. وتتميز هذه المستنقعات أيضًا بتنوع نباتات البردي والنباتات المائية الأخرى المتأصلة بعمق في الثقافة المحلية. ويؤكد قرار اليونسكو بإدراج الأهوار في قائمة التراث العالمي على دور المنطقة البيئية باعتبارها ملاذا لا مثيل له للتنوع البيولوجي، وهو الوضع الذي يجب الحفاظ عليه ودعمه.
ويمتد تصنيف اليونسكو للأهوار كموقع للتراث العالمي ليشمل بقايا مدن بلاد ما بين النهرين القديمة مثل أريدو وأور وأوروك. وكانت هذه المدن بمثابة مهد الحضارة السومرية التي كان لها تأثير عميق ولعبت دوراً محورياً في تشكيل منطقة الشرق الأوسط خلال الألفية الرابعة والثالثة قبل الميلاد. حتى أن البعض يعتبر هذه الحضارة هي الأصل المحتمل لجميع الحضارات الهندية الأوروبية.
ثلاث نقاط حاسمة تستحق النظر فيها. أولاً، هناك اعتراف بالإجماع بالثروة الأثرية الموجودة في هذه المنطقة وأهميتها العميقة في تاريخ البشرية. إنها تمثل كنزًا عالميًا، وتثير الفخر بين الشعب العراقي بحق، بينما تأسر عشاق علم الآثار في جميع أنحاء العالم. ثانياً، على الرغم من طبيعته التي لا تقدر بثمن، فإن هذا التراث يظل غير مستكشف إلى حد كبير ويكتنفه الغموض. وقد واجهت عمليات التنقيب، التي بدأت منذ ما يزيد قليلاً عن قرن من الزمان، عقبات متكررة، مما أدى إلى تحديات في تطويرها والحفاظ عليها واستخدامها.
كان سكان الأهوار في السابق موطنًا لعدد سكان يبلغ 300 ألف نسمة، وأصبح عددهم الآن بضعة آلاف فقط، وظل ارتباطهم بأرضهم وتقاليدهم ثابتًا كما كان دائمًا. وعلى الرغم من ميلهم في بعض الأحيان نحو اقتصاد الكفاف، وحتى أنهم يقتربون من الاكتفاء الذاتي بسبب الظروف المعيشية الصعبة، فإن "شعب القصب" هؤلاء - وهو اسم مناسب رمزيًا - يظلون موضع ترحيب للزائرين الخيرين.
بفضل مناظرها الطبيعية الكثيفة والتي غالبًا ما تكون متاهة، كانت الأهوار بمثابة ملاذ وملجأ تاريخيًا للمنفيين والمنفيين والهاربين والمهزومين من جميع الحروب. وعلى مر التاريخ، تكثر الحكايات عن مثل هذه المقدسات، بما في ذلك حكايات شخصيات ملكية مثل الملك البابلي مرودخ بلادان في القرن الثامن قبل الميلاد، الذي لجأ إلى الأهوار مرتين لتجنب غضب الملوك الآشوريين سرجون الثاني وسنحاريب قبل أن يهربوا في النهاية إلى الخارج.
ومع ذلك، فإن هذا الملاذ للمنبوذين منح الأهوار سمعة فريدة، وإن كانت أثارت أيضًا غضب وانتقام من هم في السلطة. على سبيل المثال، أثناء الحرب مع إيران وبعدها، اتخذ صدام حسين، في سعيه لاستئصال الهاربين والخصوم الداخليين، قرارًا بتجفيف الأهوار، وهدم السدود والقنوات، وتحويل مياه الأنهار لأغراض بديلة. ولحسن الحظ، توقف هذا التدمير واسع النطاق قبل اكتماله، إلا أن تداعياته الفنية والبيئية لا تزال تؤثر سلبًا بشكل كبير على ترميم وتطوير المنطقة البيئية.
وتواجه السلطات الوطنية العراقية العديد من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والمالية، والتي يتركز الكثير منها في المناطق الشمالية التي دمرها تنظيم داعش.ومع ذلك، في نوفمبر 2020، بدأت الحكومة العراقية، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة، في تطوير خطة تكيف وطنية تهدف إلى تعزيز قدرة البلاد على الصمود في مواجهة تغير المناخ وتعزيز حماية البيئات الطبيعية. بالإضافة إلى ذلك، تم إنشاء برنامج الإعداد لصندوق المناخ الأخضر بالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عام 2018. ومع ذلك، فإن تنفيذ هذه المبادرات يسير بوتيرة بطيئة.
في ضوء الظروف البيئية الحالية، تخضع جميع مكونات المحيط الحيوي لتدهور كبير. وينبع التهديد الرئيسي من ندرة المياه العذبة، حيث تعتمد الأهوار فقط على النهرين لإمدادها بسبب نقص هطول الأمطار المحلية. ومع ذلك، فإن هذه الأنهار، على الرغم من أنها تعبر الأراضي العراقية على نطاق واسع من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، إلا أنها تنبع من مصادر أجنبية وعابرة للحدود.
وعلى الصعيد الداخلي، يواجه العراق تحديات إضافية تؤدي إلى تفاقم نقص المياه في المنطقة البيئية. وتشمل هذه العوامل وجود العديد من السدود عند المنبع، وتدهور البنية التحتية لتوزيع المياه، والاستخدامات المتنافسة، في المقام الأول الزراعة، التي تستهلك 64٪ من حجم المياه العذبة المتاحة، إلى جانب استخراج النفط. ومع ذلك، يمكن معالجة هذه العوامل الداخلية التي تساهم في فقدان المياه العذبة.
ويستمر مؤشر الإجهاد المائي في الارتفاع، كما أن الحلول البديلة لإنتاج المياه العذبة، مثل استغلال طبقات المياه الجوفية المتجددة أو تحلية مياه البحر، أقل قابلية للتطبيق في منطقة الأهوار. ومع ذلك، التزمت شركة TotalEnergies مؤخرًا ببناء محطة لتحلية مياه البحر في المنطقة، مما يوفر الأمل في التخفيف من المخاطر البيئية.
إن جفاف التربة، الذي تفاقم بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري والإنتاج المكثف للمواد الهيدروكربونية، يؤدي إلى آثار ضارة على جودة التربة والهواء. ومن الجدير بالذكر أن تآكل التربة يؤدي إلى زيادة طفيفة في العواصف الرملية، المعروفة باسم الهبوب، مما يجعل الهواء خطيرًا للتنفس. علاوة على ذلك، فإن الحالة غير المثالية لمنشآت استخراج المواد الهيدروكربونية، وخاصة تلك المجاورة للأهوار، تنبعث منها أبخرة سامة تضر بظاهرة الاحتباس الحراري والصحة العامة، ولا سيما غاز الميثان وثاني أكسيد الكبريت.
وتتضاءل أعداد الطيور، حتى أن الأنواع المستوطنة تبحث عن ملجأ في أماكن أخرى. كما ان ضحايا التملح والتلوث المميت، هي جاموس الماء، الأسماك، وغيرها من الأنواع الرمزية مثل ثعالب الماء العراقية تتأرجح على حافة الانقراض. ويؤدي تراجعها إلى تعريض الحيوانات بأكملها وخدمات النظام البيئي التي توفرها للخطر.
ويمتد الخطر إلى النباتات أيضًا. ويعاني الغلاف النباتي بأكمله من ضائقة، مما يؤثر حتى على الأنواع الأكثر مرونة مثل أحواض القصب، وهي مكونات أساسية في البيئة الحيوية للمستنقعات. وعلى الرغم من أهميتها الثقافية والدينية والاقتصادية، فقد تضاءلت أعداد أشجار النخيل إلى النصف منذ الستينيات. علاوة على ذلك، فإن الشعير والحبوب الأخرى والبستنة والمحاصيل بشكل عام آخذة في الانخفاض، مما يزيد من تفاقم التحديات البيئية التي تواجهها المنطقة.
وبالنظر إلى الوجود الإنساني الكبير والتراث الثقافي للأهوار، فمن الأهمية بمكان التأكيد على أن المجتمع المحلي في حالة طوارئ، ويواجه العديد من القضايا الملحة مثل هجرة السكان الناتجة عن الهجرات الفردية أو العائلية، وفي بعض الحالات، عمليات نزوح واسعة النطاق تشمل سكان القرية بأكملها.وتشكل تحديات الصحة العامة، بما في ذلك نقص الغذاء ومعدلات الوفيات، تهديدات وشيكة ليس فقط لسكان الأهوار ولكن أيضًا للملايين المقيمين في جنوب العراق.
إضافة الى تهديدات مختلفة لمستقبل الحفريات الأثرية والحفاظ على التراث المكتشف وأمن المواقع السومرية.ومخاطر التحولات الديموغرافية والأزمات الأمنية في المراكز الحضرية الكبرى المجاورة للأهوار، في ظل مواجهتها لتدفق لاجئي المناخ.
وفي الوقت الحاضر، يبدو أن السلطات العراقية، المنشغلة بالتحديات الجيوسياسية والأمنية الحادة، تعطي الأولوية لقضايا أخرى. إن الحفاظ على هذه المنطقة البيئية يدين بالكثير للمبادرات المختلفة التي قادتها المنظمات غير الحكومية العراقية والأجنبية، بما في ذلك بعض المنظمات الفرنسية، بدعم من السفارة. وقد لعبت منظمات مثل رابطة حماية الطيور والمهندسين الزراعيين والأطباء البيطريين بلا حدود أدوارا جديرة بالثناء. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه المبادرات المفيدة، يتفق الخبراء على أن هذه المبادرات وحدها لن تكفي لإنقاذ منطقة الأهوار.
وعلى الرغم من أن المنطقة أثبتت قدرتها على الصمود طوال تاريخها، فإن الحفاظ على هذه القدرة يتطلب تنفيذ خطة عمل شاملة تعالج الأسباب المتعددة الأوجه لضائقتها الحالية. وتتطلب مثل هذه الخطة التزاما سياسيا قويا بتطويرها، وضمان المسؤولية المشتركة بين جميع أصحاب المصلحة على الأرض، والتنفيذ الدؤوب دون ثغرات، ذلك إن منطقة أهوار جنوب العراق البيئية، والتي تم تصنيفها بحق كموقع للتراث العالمي لليونسكو،تستحق اهتماماً خاصاً ولا ينبغي أن يتم التخلي عنها..










