متابعة / المدى
منذ عام 2005 وحتى اليوم، تتعاقب الدورات التشريعية في مجلس النواب العراقي دون التوصل إلى حسم العديد من القوانين الحيوية، التي بقيت رهينة الخلافات السياسية والتجاذبات بين الكتل النيابية. ومع نهاية كل دورة، تُرحّل مجموعة من القوانين إلى الدورة التالية، ما أدى إلى تراكمها وعجز المؤسسة التشريعية عن أداء دورها في إنتاج التشريعات الأساسية.
ويُعد كل من قانون النفط والغاز، وقانون المحكمة الاتحادية، والمادة 140 من الدستور، من أبرز القوانين التي لم تُحسم بعد، نتيجة غياب التوافق السياسي بشأنها.
يقول الخبير القانوني قتادة صالح فنجان، إن «أغلب القوانين المهمة تخضع لمبدأ المساومة والتوافق بين المكونات السياسية»، مشيرًا إلى أن «أعضاء البرلمان لا يتمتعون بحرية التصويت، إذ يرتبط قرارهم بموافقة قادة الكتل السياسية التي ينتمون إليها».
ويضيف أن «المؤسسة التشريعية ينبغي أن تكون معنية بإنتاج القوانين لا تعطيلها، خصوصًا ما يتعلق منها بالاقتصاد والمجتمع»، محذرًا من «خضوع رئاسة البرلمان وأعضائه لإرادات سياسية تتعارض مع القانون، وهو ما أدى إلى تعطيل عدد كبير من القوانين وفشل البرلمان في أداء مهامه».
ورغم فشل البرلمان في إقرار القوانين الحيوية، فإنه لم يتمكن أيضًا من تعديل أو إلغاء عدد كبير من قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل، والتي ما تزال نافذة حتى اليوم، رغم الدعوات المتكررة من شخصيات سياسية، بينها رئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد، الذي شدد عام 2023 على ضرورة حسم هذا الملف، وفقًا للمراقبين.
وفي هذا الإطار، يؤكد عضو اللجنة القانونية النيابية رائد المالكي، أنه جمع قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل، وأجرى عليها التعديلات اللازمة، وقدم مقترحًا بشأنها إلى البرلمان. لكنه يشير إلى أن «مبادرته جوبهت بالرفض، ليس فقط من رئاسة المجلس، بل لأن المجلس غير مهيأ للتعامل مع هذا الملف».
ويضيف أن «الدورة الحالية تمكنت من إقرار بعض القوانين، مثل قانون العفو العام وقانون الأحوال الشخصية، لكنها شهدت كذلك تعطيل العديد من الجلسات وتكرار جدول الأعمال دون تقدم يُذكر». ويتابع أن «القوانين المهمة المرحّلة من الدورات السابقة، مثل قانون النفط والغاز والمحكمة الاتحادية، خضعت لمنطق التوافقات السياسية»، موضحًا أن «مثل هذه المشاريع يمكن تمريرها بأغلبية الثلثين دون انتظار توافق شامل».
ويقول المالكي إن «بعض مشاريع القوانين لا تواجه خلافًا داخل البرلمان نفسه، بل إن الخلافات تدور خارج المجلس بين قادة الكتل، وهو ما يمنع عرضها للتصويت».
ووفقًا لمختصين، فإن عدد قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل يبلغ نحو 5903 قرارات، لا يزال الكثير منها نافذًا، وتمثل عبئًا تشريعيًا وقانونيًا يتطلب مراجعة شاملة.
من جانبه، يقول الخبير القانوني علي التميمي، إن «الدستور المؤقت لعام 1970كان يمنح مجلس قيادة الثورة صلاحية إصدار قرارات لها قوة القانون، وأصبحت هذه القرارات تتجاوز في عددها قوانين أساسية كقانون العقوبات الذي يتكون من 506 مواد». ويشير التميمي إلى أن «قرارات المجلس المنحل تظل نافذة بحسب المادة 130من الدستور الحالي، ما لم يتم إلغاؤها أو تعديلها بقانون»، مضيفًا أن «المنهاج الوزاري للحكومة الحالية نص صراحة على ضرورة إلغاء تلك القرارات التي تتعارض مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية».
ويؤكد أن «معظم هذه القرارات كانت تُستخدم في عهد النظام السابق لقمع المعارضين، وشملت تشكيل محاكم استثنائية مثل محكمة الثورة ومحكمة الداخلية والدفاع والمخابرات، وهي تتعارض مع القانون الدولي»، مشددًا على أن «البرلمان قادر على إلغائها دفعة واحدة أو تعديل بعضها ».
وكان رئيس اللجنة القانونية البرلمانية قد أكد في وقت سابق أن تلك القرارات لا تتطلب بالضرورة بدائل تشريعية، بل يمكن إلغاؤها وفقًا للسياقات الدستورية، مشيرًا إلى أن البرلمان سبق أن ألغى عشرات القوانين خلال دوراته الماضية.
من جهته، يرى المحلل السياسي عائد الهلالي، أن «الحكومة الحالية تواجه تحديًا كبيرًا بسبب استمرار تعطيل عدد من القوانين الجوهرية داخل البرلمان، ما أثر بشكل مباشر على الأداء الحكومي واستقرار العملية السياسية برمتها».
ويلفت الهلالي، إلى أن «قوانين مثل النفط والغاز، والمحكمة الاتحادية، والخدمة المدنية، تمثل ركائز مهمة لإعادة بناء الدولة العراقية، لكنها لا تزال رهينة الخلافات الطائفية والقومية، في ظل غياب الإرادة الجماعية وتغليب المصالح الحزبية على المصلحة العامة».
ويضيف أن «رئيس الوزراء محمد شياع السوداني حاول مرارًا تفعيل هذه القوانين ضمن برنامجه الحكومي، لكن الكتل السياسية استمرت في استخدام تلك القوانين كورقة ضغط ضمن صراعاتها، ما أجهض العديد من الإصلاحات، أو على الأقل جعل تأثيرها محدودًا».
ويشير إلى أن «تعطيل هذه القوانين لا يؤثر فقط على عمل الحكومة، بل ينعكس سلبًا على ثقة المواطن بالمنظومة السياسية ككل»، مؤكدًا أن «الإبقاء على قوانين الحقبة السابقة، إلى جانب تعطيل القوانين الحديثة، خلق بيئة تشريعية مشوشة تمنح امتيازات لفئات معينة على حساب العدالة والمؤسسات».
وفي ظل هذا الواقع، تبقى التوافقات السياسية العائق الأبرز أمام تمرير القوانين الحيوية داخل مجلس النواب، وهو ما يستدعي من القوى الوطنية الوقوف بمسؤولية لتجاوز إرث الجمود والتناقض، والمضي قدمًا نحو بناء دولة القانون والمؤسسات.










