TOP

جريدة المدى > عام > الجيل الفضي: الشعر تحت مطرقة الطغيان

الجيل الفضي: الشعر تحت مطرقة الطغيان

نشر في: 23 يوليو, 2025: 12:26 ص

غريب إسكندر
وُلد بروسيا في أوائل القرن العشرين ما يُعرف بـ"الجيل الفضي"، جيلٌ حمل على عاتقه عبء الكلمة وسط عواصف التاريخ. وقد ضم هذا الجيل أسماءً شعرية كبيرة مثل أوسيب ماندلشتام، بوريس باسترناك، أنا أخماتوفا، مارينا تسفيتايفا، وسيرغي يسينين. ولم يكن الشعر عندهم ترفًا ولا زينة لغوية، بل خلاص داخلي وموقف وجودي. ولأنّهم آمنوا بذلك، دفعوا أثمانًا باهظة: النفي، القمع، السجن، الجنون، والانتحار أحيانًا. ومع ذلك، لم يتخلّوا عن مسؤوليتهم تجاه الشعر، بل قابلوه كما يُقابل قدرٌ محتوم، بثباتٍ وجسارة.
ماندلشتام: صرخة تحت جلد اللغة
ماندلشتام (1891-1938)، على وجه الخصوص، كان تجسيدًا لهذه المعاناة النبيلة. لم يعش طويلًا، لكنه كتب شعرًا ونثرًا بكمية ونوعية تثير الدهشة، متحديًا آلة القمع الستالينية بكلماته لا بالسلاح. لقد سقط جسده، ولكنَّ كلماته بقيت تمشي، تنبض، وتُقرأ حتى الآن. في إحدى قصائده الشهيرة، والتي يعتقد أنها كتبت سرًا في ظل قمع ستالين، يقول:
الحياةُ الخاملةُ صيّرتنا مجانين
نبيذٌ في الصباح، دوارٌ في الليل
كيف يمكن كبح جماح هذه المسرة،
وجهك المتوهج، وهذا الوباء الذي يترنح مرة أخرى؟
في مصافحة الفراق تكمن طقوس العذاب،
في القُبل الليلية في الشوارع
في تدفق الأنهار الشديد
وعندما تتوهج مصابيح الشوارع كمشاعل عتيقة.
ننتظرُ الموتَ مثل ذئب الأسطورة،
لكنني أخشى مَن سيموتُ أولاً
هل هو ذلك الرجل الذي خُلِعت شفتاه الحمراوان بدقة
وفوقَ عينيه تشوهاتٌ كبيرةٌ متموجة.
هذه القصيدة تُظهر بجلاء كيف مزج ماندلشتام بين اللغة الكثيفة والصور القاسية ليخلق جمالًا مريرًا من قلب الرعب. استعان بأسلوب تجريدي يلامس التصوف، وبإيقاع داخلي ينتمي لمدرسة Acmeism التي ضمته رفقة شعراء جيله الآخرين. فاللغة عنده ليست وصفًا، بل مقاومةٌ ضد المسح الكامل للذاكرة. ومن ثم كتب ماندلشتام واحدة من أخطر قصائده تحت وطأة الرعب الستاليني: "قصيدة إلى ستالين" وتسمى أيضًا "القصيدة الهجائية لستالين". وهذه القصيدة لم تُكتب للنشر، بل للهمس، إذ كان مجرد اقتباسها كافيًا للحكم بالإعدام أو على الأقل الاعتقال والنفي في سيبيريا. قرأها شفهيًا لأصدقائه فقط، ولكنّها وصلت إلى الشرطة السّرّية، وأدّت إلى اعتقاله ونفيه. وتنبض القصيدة بروح التمرد المكبوت، وتُجسّد شعورًا جماعيًا بالخوف والخنق تحت نظام لا يرى الإنسان سوى أداة أو خطرًا محتملاً:
لم نعدْ نشعرُ بالأرض تحت أقدامنا،
وعلى مسافة عشرة أمتار لا تُسمع كلماتُنا.
فإذا سُمعت همسةٌ من حديث،
تحوّلت إلى ذلك الجبليّ في الكرملين.
أصابعُهُ-- عشرةُ ديدانٍ سميكة،
كلماتُهُ-- مقاديرُ وزن ثقيل.
صرصورٌ هائلٌ يضحكُ على شفته العليا،
بينما تلمعُ حوافُّ حذائه العسكري.
حفنةٌ من ذوي الرقاب الدجاجية تحيط به،
هكذا يتسلى بتكريم أنصاف الرجال.
واحد يصفر، وآخر يموء، وثالث ينتحب،
فيشير بإصبعه، وفي الأخير لا أحد سواه يصدر القرارات.
يصوغ مراسيمه كما تُطرق حدوات الخيل،
واحدة على العانة، وأخرى على الجبين، أو الصدغ، أو العين.
يتذوّقُ أحكامَ الإعدامات بلسانه كما يتذوق التوت،
ويتمنى أن يعانقها، كأنّها من أصدقاء طفولته المقربين!
لم يكن ماندلشتام يكتب مشروعًا أدبيًا عاديًا، بل بيانًا وجوديًا في مواجهة آلة القمع الستالينية. فالقصيدة لا تقرأ فقط بوصفها هجاء لستالين، بل بوصفها تفكيكًا ساخرًا ومريرًا لجهاز الحكم الدكتاتوري الذي يسرق من الفرد أرضه وصوته ووجوده الفيزيقي. ويمكن عدّ القصيدة ككل استعارة كبرى للاجتثاث الوجودي الناتج عن القمع السياسي.
بوريس باسترناك: شاعر المسرح الكوني
أما بوريس باسترناك (1890-1960)، فكان شاعرًا للحيرة الوجودية، وشاهدًا صامتًا على المأساة الروسية. وبعزلته الصامتة، كتب دكتور جيفاكو وكأنها وثيقة شعرية عن موت الإنسان وبعثه في آنٍ معًا. في قصيدته "هاملت" يستعير صوت شكسبير ليعبر عن ذاته كشاعر في زمن مظلم:
خفتَ الضجيجُ. أدخلُ المنصة.
واقفاً عند الباب،
أحاولُ أن ألتقط في أصداء بعيدة
ما تخبئه سنواتي المقبلة.
ظلمةُ الليل مع ألف
عينٍ مجهريةٍ تحدقُ فيَّ.
خذْ عني هذه الكأسَ أيُّها الأبُ، يا أبتي
فكلُّ شيء ممكنٌ لكَ.
أنا مولعٌ بمشروعِكَ العسيرِ هذا،
ومقتنعٌ تماماً بلعبِ دَوري فيه.
لكنَّ هناك دراما أخرى في طور التنفيذ،
فاعفني هذه المرة منه.
خطةُ العملِ قد حُدِدتْ سلفاً،
والخاتمةُ محسومةٌ لا رجعةَ فيها.
أنا وحيدٌ؛ كلُّ مَن حولي يغرق في الباطل:
أنْ تعيشَ الحياةَ ليس كما تتنزه في حقل.
هذه القصيدة تُظهر أسلوب باسترناك المتقشف: صوت داخلي يكلّم الوجود مباشرة، من خلال استعارة شكسبيرية. تتقاطع الفلسفة المسيحية هنا مع حس العجز أمام قدر يفرضه النظام والتاريخ. باسترناك كان يعرف أنَّ كلَّ كلمة ينطق بها قد تكون آخر ما يُسمح له به. ورغم فوزه بجائزة نوبل لاحقًا، التي رفضها اولًا بتأثير من السلطة ثم قبلها، فإنّه لم يستطع الهروب من عين الرقابة.
مارينا تسفيتايفا: صوت المنفى والحداد
مارينا تسفيتايفا (1892-1941)، من جهتها، كانت نارًا شعريّة لا تنطفئ. فقد كتبت في المنافي، وفي الفقر، وفي الوحدة، حتى انتهت حياتها منتحرة. لكنها لم تتخلّ يومًا عن القصيدة كوسيلة للمقاومة والاعتراف. كانت كمن يكتب وهو يحترق، وكان احتراقها ذاته جزءًا من شعرها. في قصيدتها "تهاني العام الجديد" الموجهة للشاعر النمساوي ريلكه، تخاطب الموت والخلود بروح لا تزال تنبض وسط الحطام:
هل تتذكرني أحيانًا — أتساءل؟
ما الذي تشعر به الآن، كيف يبدو الحال هناك في الأعالي؟
كيف كانت نظرتك الأولى للكون،
نظرتك الأخيرة إلى الكوكب كله —
التي لا بد أن تشمل هذه الشاعرة التي ما زالت فيه،
لم تتحول إلى رماد بعد، لا تزال روحًا في جسد —
مرئية مهما امتدت الأميال
من الخلق إلى الأزل.
عاليًا فوق البحر المتوسط في صحنه البلوري —
أين يمكن أن تنظر، وأنت تميل بمرفقيك
على حافة مقصورتك الملكية،
إن لم يكن إلى هذه الشاعرة، وهمومها الكثيرة …
سنة كتابة سعيدة يا راينر —
سأتسلق السلم حاملة لك الهدايا
على أمل أن أشعر بيدك على رأسي،
وسأحمل كأس عامي الجديد، من دون أن أسكب
قطرةَ دمعٍ واحدة، فوق الرون والرارون.
ضعْ هذهِ الكلماتِ بين يدي راينر — ماريا — ريلكه!
سيرغي يسينين: وداع الحقول والانتحار الأخير
أما سيرغي يسينين (1895-1925)، فكتب قصيدته الأخيرة "وداعًا، يا صديقي، وداعًا" بدمه على جدار غرفة فندق في لينينغراد (سانت بطرسبرغ)، وكأن القصيدة كانت طقسه الأخير، ودمه كان الحبر الوحيد الصادق بما يكفي ليقول كلّ ما عجز عنه اللسان. لم تكن مجرد رسالة انتحار، بل وداعًا حميمًا، نقيًا، من رجلٍ تعبت روحه من العيش، ولم يعد يرى الموت غريبًا:
وداعًا، يا صديقي، وداعًا.
لقد أحببتك، وما زلت،
وهذا يكفي لتظل في قلبي، حتى وإن افترقنا.
كان كلُّ شيء مرسومًا منذ البداية —
أن نمضي في طريقين،
أن يأخذني الرحيل قبل أن نكمل الحديث.
لكننا سنلتقي، يوماً ما،
في مكان لا زمن فيه ولا وداع.
لا حاجة للمصافحة. لا حاجة للدموع.
لا حاجة للحزن، ولا حاجة لتجاعيده.
الموت ليس جديدًا على هذا العالم،
ولا الحياة كانت يومًا ما مفاجأة!
يسينين كان شاعر الأرض والفلاحين، لكنّه لم يجد مكانًا لنفسه في المدينة السوفييتية الجديدة. قصيدته الأخيرة تتخلى عن كلّ رمزية، وتختار البوح العاري، كما لو أن الشاعر يُعيد الشعر إلى طقسه الجنائزي الأول: وداع. بساطة اللغة هنا لا تعني ضحالتها، بل طهارة الأسلوب، أشبه بكتابة شعرية تقف بين التوسل والمصالحة.
مرآة عراقية لهذا الجيل
كعراقي، أشعر بتقارب وجداني مع هذا الجيل، Affinity حقيقية، ربما لأننا عشنا في ظل "ستاليننا الصغير"، حيث القمع ذاته، الصمت ذاته، والخوف ذاته. ولكنَّ الفارق المؤلم أنَّ الجيل الروسي كتب، ووثّق، وتحدّى، أما نحن، فمزقتنا الرقابة والتشرذم، ولم نكن على القدر ذاته من المسؤولية تجاه الكلمة. فما كُتب قليل، وما نُشر أقل، وما نجا من النسيان يكاد يُعدّ على أصابع اليد. وربما آن أوان الاعتراف لا بالخسارة فحسب، بل بالدرس أيضاً. فالكلمة ليست فقط أداة تعبير، بل عهدٌ تجاه الذات والآخر والتاريخ. ولعل ما فعله "الجيل الفضي" هو تذكير دائم بأنَّ الشعر، حين يُكتب بصدق، لا يُسحق حتى لو كُتب داخل زنزانة. وفي النهاية، يبقى الشعر هو ما ينقذ الذاكرة من التلاشي، ويُبقي الجراحَ ناطقةً. الشعر ليس ترفًا، بل ضرورة، خصوصًا حين يتساقط كلُّ شيء آخر من حولنا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram