TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > منهجية التفكير القضائي: بين محكمة التمييز الاتحادية والمحكمة الاتحادية العليا

منهجية التفكير القضائي: بين محكمة التمييز الاتحادية والمحكمة الاتحادية العليا

نشر في: 27 يوليو, 2025: 12:01 ص

د. اسامة شهاب حمد الجعفري

العمل القضائي جهداً ذهنياً وملكة فكرية تسبر اغوار الادعاء للوقوف على حقيقة الامر, به يستثير القاضي قدرته العقلية في تفكيك الواقعة الى اجزائها فتنشط ذاكرته وملكته لاستدعاء القواعد القانونية واعادة دمج تلك الواقعة مع القانون لانتاج بناء جديد يكيف الواقعة بمنطق القانون الذي يحكم سلوك الافراد بطريقة استنتاجية وتحليلية يبين دوافعه وقناعته لاصدار الحكم. اذن, المنهجية القضائية هي عملية تفكيك الواقعة, ثم تحليل كل جزء من اجزائها, ثم اعادة تجميع كل هذه الاجزاء من خلال ربطها بالقاعدة القانونية التي تحكمها, وانتاج الحل القانوني العادل لكل لهذه الواقعة.
الا ان مضمون منهجية التفكير القضائي في استخلاص الاحكام القضائية ليست واحدة وانما هي مختلفة ومتعدد بتعدد طبيعة النص القانوني الذي يتعامل معه القاضي, هذه المنهجية متعددة حتى داخل الهيئة القضائية الواحدة, وهذا ينطبق على المحاكم الجنائية والمحاكم المدنية المرتبطة ادارياً الى مجلس القضاء الاعلى, فقاضي الجنائي تحكمه قواعد تفكيرية تختلف عن القاضي المدني, الاخير يدير الدعوى وفق اطار عام يتضمن معنى ان الخصومة ملك خاص لاطرافها فهم الذين يترجمونها قضائياً ولا يتدخل القاضي المدني في الاثبات, بخلاف القاضي الجنائي الذي يكون له دور ايجابي واسع النطاق في اثبات الواقعة الجنائية لان الدعوى تمس النظام العام. كما ان الاصل في الاحكام الجنائية انها تصدر لما وقر في عقيدة القاضي واطمأن اليه وجداناً ولو خالف ماهو ثابت بالمستندات. اما في القضاء المدني فالامر قد يختلف بحسبان ان القاضي المدني في الاصل هو مقيد بالادلة والمستندات ولا يملك حرية الاقتناع كما هي للقاضي الجنائي.
كذلك اختلاف منهجية التفكير القضائية لا يقتصر مفعولها فيما بين القضاة كأشخاص, وانما ينصرف الى المحاكم كهئيات قضائية مستقلة بعضها عن بعضها, كما هو الحال بين محكمة التمييز الاتحادية والمحكمة الاتحادية العليا, فهذا الاختلاف يكون قائماً بينهما وبشكل اكثر وضوح, ويرجع السبب في هذا الاختلاف الى اختلاف طبيعة النص القانوني الذي تتعامل معه كل محكمة من هذين المحكمتين, وبطبييعة الحال هذا الاختلاف يؤدي الى اختلاف المواقف القانونية وما رؤية السيد رئيس المجلس القضاء الاعلى القانونية حول قرارات المحكمة الاتحادية العليا ذات الصلة بخور عبد الله الا دليلا لهذا الاستقراء.
سبب اختلاف منهجية التفكير القضائي بين محكمة التمييز والمحكمة الاتحادية العليا
منهجية التفكير القضائي بين محكمة التمييز والمحكمة الاتحادية مختلفة تماماً, ولا تشابه بينهما, كون ان المحكمة الاتحادية تتعامل مع نص دستوري يتصف بالعمومية والمرونة والانفتاح ذات حمولة رمزية متعلقة "بسيادة الشعب وحقوقه" لتعيد صياغته على ضوء المصالح العليا للنظام السياسي للدولة. ومساحة القوانين التي تعمل في ظلها تنحصر فقط بالدستور فتكون محكمة اجتهادية بامتياز فقراراتها تستند الى مباديء النظام السياسي لا الى نصوص تشريعية, كما ان قراراتها قيمتها القانونية قيمة مطلقة وملزمة للجميع وللسلطات.
اما محكمة التمييز الاتحادية التي يرأسها السيد رئيس المجلس القضاء الاعلى تتعامل مع تشريعات جامدة ومحددة ومفصلة (قانون العقوبات, القانون المدني, القانون التجاري, قانون الاحوال الشخصية... الخ), وهذه النصوص عادة ما تكون واضحة من حيث اللغة والمضمون, وتعتمد على التفسير الحرفي والمنهجي عند التطبيق وتحدد تحديداً اكيداً لمصالح الافراد داخل المجتمع الواحد فتصدر قرارات فردية نسبية غير ملزمة الا للافراد الذين هم اطراف الخصومة, فتستند الى نصوص لا الى مباديء غالباً, وتتصف قيمة القانونية لقراراتها بانها "قرارات نسبية" غير مطلقة كما هي الحال في المحكمة الاتحادية العليا.
وهذا الفرق في منهجية التفكير القضائي بين محكمة التمييز والمحكمة الاتحادية يحدث بوناً شاسعاً بين المحكمتين في الوظيفة والمنهج القضائي وآلية اصدار الحكم. فالمحكمة الاتحادية شريكة في انشاء المعنى بينما محكمة التمييز تطبق النص, ووظيفة محكمة التمييز توحيد الاجتهاد القضائي بينما وظيفة المحكمة الاتحادية هي ضمان دستورية النظام السياسي. فكانت قضية خور عبد الله محل اختلاف بين رئيس مجلس القضاء الاعلى و المحكمة الاتحادية العليا ويرجع هذا الاختلاف الى اختلاف في منهجية التفكير القضائي. اذ نقل منهجية محكمة التمييز الاتحادية الى النطاق الدستوري وهذا ما لا نتفق معه رغم وجاهة حججه القانونية ولكن تبقى المباديء الدستورية العامة " كسيادة الشعب وحقوقه" وفلسفة النظام السياسي والاجتماعي والمباديء مافوق الدستورية هي التي توجه النصوص الدستورية وتضرب لها معاني جديدة ومستحدثة ذات ابعاد سياسية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram