طالب عبد العزيز
لا تُؤتى البصرة من الشمس، فهي مجمرةُ الصيف، وقارورة الملح، نقيع اللهب، ويافطة حمراء؛ تحترق بالريح تارةً، وبالتأفف والغضب أخرى. قد تلينُ، وقد لا تلين أيضاً، لكنها عَظَمةُ النخل وعِرقُ الدين، والبصرة وسادةُ الضوء، وعطبُ العقل في تموز وآب، وغضبة الربِّ الأولى، لا تُكره عند أهلها، ولا تُحمد عند غيرهم، فهي المؤتفكة في حديث أنس بن مالك، وهي الرعناء عند جرير، والتي قتل عند مسجد جمعها الآلاف، قبل أن تكون مختبرُ الخلفاء والسلاطين، الذي قالت لهم: إيّاكم وأنا.
اختلفَ الأولون على تأريخها، فقالوا: دخلها العربُ النجديون واليمانيون فاتحين! متى أُغْلقت البصرة لكي تفتح؟ وقالوا بأنَّ نساءَهم راحت تثير الغبار وراء خيل الرجال الفاتحين فولّى أهلُها هاربين، وهكذا هي عند هذا وذاك، فهم يكتبون بأقلامهم ما ليس في حقيقة أرضها وناسها، فهي الخريبةُ بلفظهم، وقصبةٌ صغيرة من أعمال كسرى، فيما هي أكبر من ذلك بكثير. كذلك يختلف القائلون اليوم بمحنتها في خور عبد الله التميمي، فهذا يشير الى دعامة في بحرها، وذاك يؤشر بعصاه رملة على حدودها، كلٌّ يريد لكلمته خلاصةً، ولرأيه مقتنِعاً، فيما اقتسم الجالسون على الطاولات من أموالها ما اقتسموا، وعبأُوا في حقائبهم ما عبأُوا، ذلك لأنَّ أهلها خارج معادلة القبول والرفض، بعيدون عن ما يعتمل في عقول من يمسكون بأمرها، فتحدَّث بشأنها من لم تحرقه شمسُها، ومن لم يذق تمرها، ولم يحمل بندقيةً في الدفاع عنها. سنذكرُ بأنَّ الشمس في البصرة للغضب والثورة أحيانا.
إذا كانت البصرة أرضاً للفتن عند كتاب السلاطين فهي أرض الثورات اليوم، فلم يستقدم معاويةُ بن ابي سفيان زيادَ ابن ابيه للبصرة سنة 45 للهجرة لإعمارها، وتحسين حال أهلها، إنما لقمع ثورتها، وهكذا ظلَّ التأريخ يحدّثنا عن شعب يُظلم ويثور، وعن والٍ يحكم ويقمع، ويخرب المدينة، حتى أنَّ مؤرخاً معاصراً يحدثنا عن أكثر من 25 خراباً تعرضت له، منذ نشأتها، ولعل العالمين يذكرون بأنَّها خربت على ايدي الحكام البعثيين؛ لأنَّ شرارة الثورة في آذار 1991 انطلقت منها، حين وقف ضابطٌ عائدٌ من كتبيته التي هزمت على الحدود مع الكويت معاتباً تمثال رئيسه(صدام حسين)المسبوك من الحديد والنحاس، والمقام بأحدى ساحاتها، وحين لم ينطق التمثال وجّه ماسورة دبابته نحوه ونسفه، فهاج وماج الناس، وانتصرت الثورة.
يطالع مستعملو الطريق الى مركز البصرة من شارع السعدي؛ صورةً لشاب وسيم، لم يبلغ الثامنة عشر بعد، لعل اسمه (منتظر) مرفوعة على سور ساحة الزعيم، عبد الكريم قاسم، كان أول من سقط برصاص الحكومة سنة 2018 لأنه خرج مع من خرج من البصريين، مطالباً بتحسين نوعية مياه الشرب، وزيادة عدد ساعات التزويد بالطاقة. الناس في البصرة يخرجون ضد الحكام الطغاة، منذ عقود سحيقة، هم مثل سكان المدن في المكسيك، بوصف أوكتافيو باث في كتابه(متهات الوحدة)يتظاهرون منذ أن كان القمع بالهراوة، ومازالوا يخرجون ويتظاهرون وآلة القمع البندقية. ليست الشمسُ في البصرة لإنضاج الرطب ولبغضاء غير البصريين هي للثورة أيضاً.










