د. فاطمة الثابت
في عالم تتسارع فيه التحولات الاقتصادية وتتصاعد فيه التحديات السياسية، تكتسب مشاركة النساء في إدارة الملفات المالية دلالات تتجاوز كسر السقف الزجاجي، لتلامس جوهر السلطة وإعادة توزيعها ومن بين أبرز النماذج النسوية في هذا السياق، تبرز تجربتان متباينتان شكلاً ومضموناً: راشيل ريفز، وزيرة المالية البريطانية في حكومة حزب العمال الجديدة، وطيف سامي، وزيرة المالية العراقية في دولة مثقلة بأزمات مالية متكررة وانعدام إقرار منظم للموازنة العامة.
ورغم أن العنوان الوظيفي متقاطع، فإن التجربتين تكشفان عن تباين في الأداء، في العلاقة مع الجمهور، وفي البنية الثقافية التي تُنتج استقبالاً اجتماعياً مغايراً للمرأة في موقع إدارة المال العام.
وفق نظرية الحقول الاجتماعية لبيير بورديو، يمثل كل حقل كالاقتصاد والسياسة مساحة تنافس على رأس المال الرمزي والشرعية وحين تتقلد امرأة وزارة المالية، فإنها لا تدخل فقط في معادلة اقتصادية، بل تصطدم أيضاً بالبُنى الرمزية للجندر، حيث يُطلب منها إثبات كفاءتها ضمن معايير غالباً ما صيغت ضمن منطق "البرود الذكوري" والعقلانية المجردة.
راشيل ريفز أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ المملكة المتحدة، جمعت بين الصرامة الاقتصادية والتماهي الإنساني مع ثقل المسؤولية، كما ظهر في لحظة بكائها خلال جلسة مساءلة برلمانية حساسة لم يُنظر إلى دموعها كضعف، بل كمؤشر على إنسانية المسؤولة أما طيف سامي، فقد وظفت خطاباً ساخراً في ذروة إعلان العجز المالي، ما أسهم في تسخيف رمزية المنصب وتقويض ثقة الشارع بها، وفتح الباب لتحويلها إلى مادة للتنمر الرقمي.
المفارقة لا تتعلق بطبيعة السياسات فحسب، بل بكيفية استقبال النساء في مواقع السلطة في بريطانيا، ينصب التركيز على مشروع الوزيرة الاقتصادي، بينما في العراق غالباً ما يُختزل حضور طيف سامي في المظهر والنبرة واللغة، ويخضع لرقابة ثقافية مشبعة بما يسميه بورديو بـ "العنف الرمزي"، حيث تُمارس السلطة الاجتماعية عبر أشكال غير مرئية من التبخيس والتقليل من الشأن، خاصة في الفضاءات التي يُفترض أنها "ذكورية".
ومن منظور جوديث بتلر لمفهوم "أداء الجندر" التي تؤكد أن النوع الاجتماعي لا يُمنح بيولوجياً بل يُعاد إنتاجه وتقديمه عبر الخطاب والحركة والمظهر، طيف سامي، من حيث لا تدري، قدمت أداءً ساخراً في لحظة يتوقع فيها المجتمع خطاباً حازماً، فأخفقت لا فقط في المحتوى، بل في الأداء ذاته، ما جعلها عرضة لرفض مضاعف رفض اقتصادي ورفض جندري.
في المقابل فإن ريفز رغم بكائها، لم تُتهم بالعاطفية المفرطة، بل كسبت تعاطفاً شعبياً ومؤسساتياً لأنها قدمت خطاباً متماسكاً ومحسوباً. .جعل العاطفة تعبيراً عن المسؤولية لا عن الضعف.
يرتكز التحدي الأكبر على ما سمته الباحثة جوان سكوت بـ"عبء التمثيل الرمزي" حيث تتحول النساء في المناصب العليا إلى رموز لمشروع المساواة، فيُثقل حضورهن بتوقعات مزدوجة أن يُثبتن الكفاءة ضمن نظام لا يزال مصمماً لاستقبال الرجال.
لكن في حالة طيف سامي لا يمكن اختزال الأزمة بالتمثيل الرمزي فقط؛ بل هي أزمة إدارة سياسية لملف مالي حساس في دولة هشة مؤسساتياً حيث تتحول السخرية إلى آلية دفاع اجتماعي أمام خطاب رسمي يفتقر إلى الجدية.
بين تجربة راشيل ريفز المشحونة بالرمزية الغربية للإنجاز، وتجربة طيف سامي المحاصرة بسخرية الشارع، يتجلى سؤال سوسيولوجي ملح، هل يستطيع المجتمع العربي أن يخرج من قوالبه الجندرية في تقييم النساء؟ وهل تستطيع النساء أن يتحملن أعباء المنصب دون أن يسقطن في فخ التهكم أو الاستعراض؟
لا يتعلق الأمر بجنس الوزيرة، بل بجودة الأداء وشرعية الخطاب، فحين يُفرغ الخطاب المالي من مسؤوليته الأخلاقية ويتماهى مع التهكم، لا يُستهزأ بالوزيرة فقط، بل بالسلطة ذاتها ويُختزل المال العام إلى مادة ترفيه، بدل أن يكون أداة سيادية لبناء الدولة.










