ياسين طه حافظ
هذا الموضوع يغيب، ويفاجؤني. يحتل مكانا في رأسي ويهيمن من ذلك المكان على بقية الافكار. ارتضيه واعود اقلب جوانبه وأُمعِن النظر فيه لعلي افهم ما يريد.
اقول لنفسي: كم مُجدٍ ان اتبناه وامضي زمنا، من بقيّةٍ ظلّـت، لأتفهّمهُ، ولماذا يختارني من بين كثيرين يعرفهم ويعرفونه؟
ربما فهمت.
نحن جميعا قرأنا، سمعنا قصةَ غياب الاغريقي القديم يوليسيس، يسمونه احيانا عوليس، قصة غيابه في البحار تاركا زوجته الجميلة بنيلوب بانتظار عودته.
بنيلوب باقية على انتظارها وصبرها وعشاق بنيلوب، ونحن منهم!، حول الدار.
هم حول دارها ينتظرون لعل حظوة بالزوجة الجميلة، لعلها تيأس، تمل، تدرك الّا جدوى، فترتضي احدهم.
فهم هناك يوقدون النيران ويطبخون، وينشدون ويروون قصص حب وبطولات، وهي في بيتها ترى العشاق وتعلم انها معشوقة لكل أولئك لكنها باقية بانتظار يوليسيس، وهم باقون بانتظار!
حديثي اليوم عن عشاق بنيلوب في الازمنة. ففي كل زمان عشاقٌ ينتظرون وفي كل زمان بنيلوب. لقد انقرضت اجيال وصنوف من اولئك واولاء العشاق. وربما اختصموا عليها وربما تقاتلوا وربما ماتوا حسرة في العراء، وربما، وهذه حال تستوجب وقفةً وسؤال، اقول ربما زادهم استمرار وطول غياب يوليسيس تعلقا بـبنيلوب فظلوا ينتظرون آملين اخيرا بفوز..
هكذا، صار حديثي عن اولئك الذين ينتظرون ما لا يتحقق، ما لا يرون ولا ينالون. من هؤلاء معاصرون تاهوا او غُرّرَ بهم، ومن هؤلاء ناسُ سياسةٍ واصحاب رأي لهم عقائد وافكار امضوا اعمارهم ينتظرون الفوز بـ بنيلوب. كل اؤلئك ضحوا او هلكو في منتصف الطريق وكلٌ كان يهجس ولا يرى، ومنهم من رأى النار من بعيد فقال الاشارة لي وظل ينتظر حتى مات.
لا اريد اليوم ان افاضل بينهم ولا ان الوم على فعل او اثني عليه، ولن اقول ابدا هذا خيرٌ من ذاك او هذا المطلب ازكى من ذاك المطلب. فانا اليوم اراهم فريقا واحدا ومحنة واحدة وإشكالا وحدا، واسمّيهم جميعا عشاق بنيلوب.
ومثلما هم مختلفون من انحاء شتى وازمنة شتى، نجد بنيلوب في عوالم شتى وازمنة وكأنها تعيش قريبة من كل قوم وانها حاضرة لها العديد من العشاق في كل زمان والمشترك هو لا واحدا من الجميع حظي بـ بنيلوب، بنيلوب تنتظر يوليسيس يعود.
ما اثار الموضوع اليوم هو سؤالُ ساخطٍ محتج او مألومٍ غاضب: اذا كان كل المنتظرين ومن انتظروا في باب بنيلوب وفي الميادين القريبة من نزلها، لم ينالوها، وما دامت كل هذه الدهور بعيدة لا تُنال فلماذا القتلى ولماذا اعداد المنكسرين ولماذا سجون المدن في القارات ملأى بمن اجترأوا او من اختصموا عليها، ولماذا كل اؤلئك الذين خسروا كراماتهم او ماتوا كمداً او حسرة، واولئك الذين عاشوا يتقون او يخشون الامر بالموت، وليسوا غير عشاق محبين رأوا جمالا في مكان وظلوا ينتظرون، ظلوا طيلة اعمارهم يتمنون الوصول اليه؟
وهنا، ربما جرأة مني، اواجه ذاك السؤال الصعب بسؤال..
لكن هل راجع ايٌ من المنتظرين ماهو فيه واعاد النظر في حاله وموضع محبته، ورأى ان كانت بنيلوب تلوّح بنيل أو تعِدُ؟ وهل رؤيةٌ لا تتحقق توجب خسران حياة وعيش ام هو يواصل المحبة بعد محبين سبقوه ويواصل العشق مثل الوف العشاق قبله انتظروا، انتظروا، ولا احد يعرف بعدُ اين صاروا؟
مشكلة العشاق، داؤهم الابدي، انهم لا يعاودون التفكير بانفسهم ولا بمن، او بما، استحوذ على عواطفهم وارتضوه، ثم هل تستطيع بنيلوب ان تأتيهم اذا شاءت؟
اي اعادة نظر للتأكد، هي بالنسبة لهم قصور في الحب ونقصُ لهفةٍ ولا ايمان. هي عدم اكتمال عشقٍ لجمال نادر يريد محبين ويجتذب ابطالا يعشقون مخلصين.
هكذا، وعبر كل الدهور، يستمر عشاق بنيلوب، باصنافهم، يوقدون النيران ويطبخون حول بيت بنيلوب وربما ينشدون حماسات، وربما يقتتلون. وان عشاقا اخرين لبنيلوب اخرى منافسة يظنونها الفضلى ويرونها مؤمنين هي الاجمل والاسمى، ويقتتلون..!
لا اقلل من سطوة الجمال ولا من اللهفة وحماسات الحب والعشق الضارب في الفرسان، لكني اواجه المنتظرين، من زمن، بالحقيقة الصعبة: هي ليست لاي منهم ولن تكون. هي لأوليس الغائب في البحار، وهو آتٍ لها ولن ترى تلك الساعة الّا فرار العشاق او انحناء رؤسهم يغادرون...










