بغداد / المدى
حذّر الخبير في شؤون إدارة الموارد المائية، تحسين الموسوي، من تفاقم أزمة المياه في العراق، مشيراً إلى أن الخزين المائي انخفض إلى أقل من 7 مليارات متر مكعب، وهو من أدنى المستويات التي تسجلها البلاد في تاريخها الحديث، مما ينذر بكارثة بيئية وزراعية وإنسانية غير مسبوقة.
وقال الموسوي في تصريح تابعته (المدى)، إن "الوضع المائي في العراق خطير جداً، ويهدد باتساع رقعة الجفاف من المحافظات الجنوبية إلى الوسطى، وربما يصل تأثيره إلى بغداد إذا استمرت وتيرة التدهور الحالية"، مؤكداً أن "العراق فقد خلال أشهر الصيف أكثر من 4 مليارات متر مكعب من المياه بسبب التبخر الناتج عن ارتفاع درجات الحرارة".
وأشار إلى أن الأسباب الرئيسة للأزمة تعود إلى "فشل الوفد التفاوضي العراقي في الحصول على حصة عادلة من المياه من تركيا، وسوء إدارة الملف داخلياً، إضافة إلى التوسع غير المدروس في الخطة الزراعية الذي أدى إلى استنزاف واسع للمياه السطحية والجوفية".
ولا تقتصر الأزمة على الجانب المائي فقط، بل تمتد آثارها إلى قطاعات حيوية أبرزها الزراعة، التي تشكل مصدر رزق لملايين العراقيين. ويؤكد المهندس الزراعي وعد نجم أن "الأزمة الحالية هي الأخطر منذ تسعين عاماً، وتكشف هشاشة التخطيط المائي في العراق".
ويقول نجم لـ(المدى)، إن "اعتماد العراق شبه الكامل على مياه دجلة والفرات، دون إنشاء مشاريع استراتيجية لتخزين المياه أو تحلية المياه المالحة في الجنوب، جعل البلاد عرضة لأي ابتزاز مائي إقليمي".
ويضيف أن "المشكلة لا تكمن فقط في شحة المياه الواردة من دول المنبع، بل في ضعف قدرة العراق على إدارتها داخلياً، حيث لا تزال السياسات الزراعية تستهلك نحو 70% من الموارد المائية بطريقة غير مستدامة".
تقليص الخطة الزراعية
تعاني البلاد منذ سنوات من تراجع كبير في الإيرادات المائية، نتيجة بناء السدود من قبل تركيا وإيران على روافد نهري دجلة والفرات. وتقول وزارة الموارد المائية إن تركيا ترفض الالتزام بالاتفاقيات السابقة، وتربط إطلاق الحصص المائية بمشاريعها الداخلية مثل سد إليسو.
ورغم توقيع العديد من مذكرات التفاهم مع أنقرة وطهران، إلا أن غياب الإرادة السياسية الحقيقية وتراجع الضغط الدبلوماسي ساهما في إضعاف الموقف العراقي في ملف المياه. وكان تقرير سابق لمنظمة "اليونيسيف" قد صنف العراق ضمن خمس دول مهددة بانعدام الأمن المائي بحلول عام 2030.
وفي ظل أسوأ أزمة مائية يشهدها العراق منذ 80 عاماً، تتجه وزارة الموارد المائية إلى تنفيذ مشاريع حصاد المياه كخيار استراتيجي لمواجهة الجفاف المتفاقم. وأكدت الوزارة اكتمال تصاميم وخرائط 36 مشروعاً موزعة على عدد من المحافظات، بهدف تخزين مياه الأمطار والسيول وتقليل الهدر المائي، إلى جانب دعم الزراعة وتوفير مصادر إضافية للمياه الصالحة للشرب ومكافحة التصحر.
يأتي ذلك بالتزامن مع تراجع منسوب نهري دجلة والفرات إلى مستويات تاريخية غير مسبوقة، ما دفع السلطات إلى تقليص المساحات الزراعية الصيفية للحفاظ على الخزين المائي الاستراتيجي.
ويقول معاون مدير عام الهيئة العامة لتشغيل مشاريع الري والبزل، غزوان السهلاني، في حديث لـ(المدى)، إن "مشاريع حصاد المياه تهدف إلى تخزين مياه الأمطار والسيول واستخدامها خلال فترات الجفاف، وتقليل الهدر المائي، وتوفير مصادر إضافية للري والزراعة، إلى جانب تغذية المياه الجوفية والحد من الفيضانات والسيول".
وأضاف أن "لهذه المشاريع مردودات بيئية واقتصادية مهمة، أبرزها مكافحة التصحر وتحسين البيئة، وتوفير المياه الصالحة للشرب وسقي المواشي، فضلاً عن دعم التنمية الريفية وتوفير فرص عمل جديدة، مع إمكانية استثمار بعض المواقع لأغراض سياحية وترفيهية محلية".
وأشار السهلاني إلى أن "الوزارة لا ترى حاجة في الوقت الحالي لإنشاء سدود خزنية كبيرة، لوجود فراغ خزني واسع قادر على استيعاب أي واردات مائية من دول المنبع".
وبات مخزون المياه في العراق في أدنى مستوياته منذ 80 عاماً، بسبب موسم الأمطار الضعيف للغاية وانخفاض تدفق نهري دجلة والفرات، حسبما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن المتحدث باسم الوزارة، خالد شمال.
وأضاف شمال أن النقص في المياه أسوأ من عام 2024، وسيجبر السلطات على تقليص مساحة الأراضي الزراعية المزروعة هذا الصيف.
وقال شمال، على هامش مؤتمر بغداد الدولي الخامس للمياه، "لا يستلم العراق سوى أقل من 40% من استحقاقه.. ونستطيع أن نلاحظ منسوب المياه في كل من دجلة والفرات".
وأكد أن "الخزين الاستراتيجي كان أفضل في العام الماضي، إذ كان ضعف الموجود حالياً"، وتابع "في بداية موسم الصيف من المفترض أن يكون لدينا ما لا يقل عن 18 مليار متر مكعب، أما الآن فنحن لدينا حوالي 10 مليارات متر مكعب".
وأوضح أن "خلال 80 سنة لم نحصل على خزين منخفض بهذا الشكل"، مشيراً إلى أن "الأمطار هذه السنة كانت شحيحة، وحتى الإيرادات المائية من ذوبان الثلوج كانت قليلة جداً، وكل ذلك أثر على الخزين".
ومن أجل ضمان توافر مياه الشرب لـ46 مليون عراقي، اضطرت السلطات خلال السنوات الماضية إلى تقليص المساحات الزراعية.
وقال شمال: "لن نتوسع بالخطة الزراعية الصيفية"، وتابع: "مؤشرات الخطة الزراعية تُبنى على ما هو موجود من مياه بالخزين أو الإيرادات، وبما أن الخزين قليل والإيرادات أقل، ستكون الخطة الزراعية هيكلية للحفاظ على أصول النباتات وأصول المزروعات".
وأضاف: "سنحافظ فقط على المساحات الخضراء أو المساحات المثمرة، أي أكثر من مليون ونصف مليون دونم"، في حين كانت السلطات قد سمحت العام الماضي بزراعة مليونين ونصف مليون دونم من حقول الذرة والأرز والبساتين.
وخلال السنوات الماضية، شجعت الحكومة العراقية المزارعين على استخدام تقنيات الري الحديث للحد من استهلاك المياه.
دعوات لإعلان الطوارئ وتدويل الملف
من جهته، دعا الخبير البيئي أحمد الدليمي الحكومة العراقية إلى إعلان حالة الطوارئ المائية، واتخاذ إجراءات فورية، من بينها: تقليص المساحات المزروعة بالمحاصيل الشرهة للمياه، وتسريع تنفيذ مشاريع تحلية المياه في الجنوب، واعتماد تقنيات الري الحديثة بدل التقليدية، وفرض رقابة صارمة على حفر الآبار العشوائية، وإعادة التفاوض الجاد مع دول الجوار المائي بوساطة دولية.
ويؤكد الدليمي لـ(المدى)، أن "الزمن لم يعد في صالح العراق، وإذا لم تبدأ المعالجات الحقيقية الآن، فإن السنوات القادمة ستكون أشد قسوة، ليس فقط على القطاع الزراعي، بل على المدن والقرى التي قد تفقد مصادر مياهها بشكل كامل".
وكانت تقارير لمنظمات دولية من بينها البنك الدولي قد أشارت إلى أن العراق سيواجه شحاً مائياً حاداً بحلول عام 2040، إذا لم يغيّر من استراتيجياته الحالية، خصوصاً فيما يتعلق بالزراعة التقليدية واستهلاك المياه غير المقنن.
تقف البلاد اليوم أمام مفترق طرق حاسم، بين الاستمرار في النهج القائم الذي أوصلها إلى حافة العطش، أو التحرك السريع نحو إصلاح شامل لسياسات المياه، وإلا فإن الجفاف لن يكون تهديداً مؤقتاً، بل واقعاً دائماً يرسم مستقبل العراق القريب.
العراق على حافة العطش: انهيار الخزين وأزمة مائية غير مسبوقة

نشر في: 28 يوليو, 2025: 01:17 ص









