د فالح الحمراني
بعد أكثر من عشرين عامًا على إسقاط النظام الديكتاتوري، ما يزال العراق يعاني من أزمة عميقة في ممارسة ديمقراطيته*. فالانتخابات، التي كان يُقصد بها أن تكون وسيلة سلمية لتجديد الشرعية السياسية وبناء الدولة وتمثيل إرادة الناخبين، تحولت في العراق إلى واجهة تُستخدم لترسيخ النفوذ وتداول المناصب في ظل نظام حكم يسوده الفساد.
فالديمقراطية ليست مجرد وسيلة لاختيار القادة؛ بل يجب أن تصاحبها أيضًا قيم ومؤسسات تدعم هذه القيم لتكون فعّالة. والديمقراطية ليست مجرد صناديق الاقتراع. يجب أن يقترن ذلك بتبادل حر للأفكار، ونظام تشريعي متكامل، وتداول سلمي للسلطة، واحترام إرادة الشعب. ويغيب في العراق، العديد من هذه العناصر، مما يجعل العملية الانتخابية مجرد ممارسة شكلية لا تعكس جوهر الديمقراطية. ويتجلى هذا بوضوح أكبر في كثير من القرارات السياسية التي تُتخذ خارج جدران مجلس النواب وخارج آليات التصويت في البلاد، مما يجعل العملية الانتخابية لا تعدو غير ختم مطاطي لإضفاء الشرعية على ما تم الاتفاق عليه سابقًا خلف الكواليس.
إن مستقبل الديمقراطية فيه يعتمد على قدرة البلاد على إصلاح العملية الانتخابية من جذورها. ومن الضروري القيام بإصلاحات جذرية لمعالجة الإخفاقات المتكررة في العملية الانتخابية العراقية. ويُعدّ ضبط الأسلحة غير المقيّدة وإنهاء هيمنة الجماعات المسلحة على القرارات السياسية أمرًا حيويًا لضمان بيئة آمنة ومحايدة تُشجّع على مشاركة الناخبين والمرشحين. كما يجب ضبط تمويل الحملات الانتخابية، وسنّ تشريعات صارمة لمحاسبة المتورطين في شراء الأصوات أو التأثير غير القانوني على الناخبين. وينبغي وضع ضمانات لضمان عدم استنزاف الموارد العامة لأغراض انتخابية من قِبل الأحزاب المؤثرة. ويجب استكمال جميع هذه الجهود بتشريعات تضمن استقلالية المفوضية العليا للانتخابات، وتوفر لها الدعم الفني والمهني اللازم لأداء دورها المنصوص عليه في الدستور العراقي. كما ينبغي دعم الأحزاب الإصلاحية ومنحها فرصًا متساوية في الإعلام والتمويل، مع نشر الوعي الانتخابي لتعزيز ثقافة المشاركة بين المواطنين، وخاصة الشباب. ويجب الالتزام بالانتقال السلمي للسلطة، واحترام نتائج الانتخابات، واستقلال القضاء لتفسير الدستور بما يتماشى مع سيادة القانون. هذه شروطٌ يصعب تطبيقها. ومع ذلك، فبدونها، ستبقى الانتخابات طقسًا سياسيًا شكليًا يُستخدم لتجديد شعور زائف بالشرعية. الديمقراطية ليست مجرد وسيلة للوصول إلى السلطة، بل هي عقد اجتماعي قائم على احترام الإرادة الشعبية، والمساواة أمام القانون، والمساءلة. هذه الجوانب الحيوية للديمقراطية لا تزال مفقودة للأسف في العراق.
إخفاقات الانتخابات العراقية
يفتقر العراق إلى الآليات الأساسية لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وعلى رأسها فشل الدولة في منع الجماعات شبه العسكرية من استخدام القوة. ويشكل انتشار الأسلحة في العراق تهديدًا مباشرًا للناخبين والمفوضية العليا للانتخابات والمرشحين؛ لأنها تُستخدم كأداة ضغط سياسي إبان الحملة الانتخابية.
وتلعب الأموال التي يجري ضخها في الحملات الانتخابية دورًا خطيرًا بنفس قدر تأثير المليشيات في العراق. وقضت المحكمة العليا في عام 2021، برفض أي قيود على المساهمات المالية في الحملات الانتخابية. وعلى هذا النحو، يستغل السياسيون من جميع الأطياف مواردهم المالية لشراء الأصوات وربط آفاق مواردهم الاقتصادية من دوائرهم الانتخابية بنجاحهم السياسي. وامتلأ الخطاب السياسي بإعلانات لبرامج شعبوية مُبالغ فيها تفتقر إلى التفاصيل أو الحلول العملية لمشاكل الناخبين الحقيقية. وقد أدى هذا الخطاب في الوقت نفسه إلى تهميش السياسيين الإصلاحيين الساعين إلى تغيير الوضع السياسي الراهن.
كما يجري تهميش القوى الاصلاحية في السياسة العراقية لأنها لا تستطيع المشاركة في فيما يطلق عليه غالبا ب "الزبونية الانتخابية" أو الزبونية الحزبية (Clientelism) وهو السيناريو المعتاد الذي ينوي فيه المرشّح شراء الأصوات ويكون عادةً من خلال وسطاء. والتي تُبقي ممارستها في من قبل العراق الأحزاب النافذة. وبالتالي يُحرم الاصلاحيون من التمويل والدعم. وهذا يُثني العراقيين ذوي التوجه الإصلاحي في نهاية المطاف عن الانخراط في السياسة. كما أن الأحزاب نفسها التي تنخرط في الزبونية الانتخابية تُسيطر أيضًا على الوزارات والهيئات الحكومية، مما يسمح لها باستغلال تدفق الموارد العامة. وبدون رقابة فعالة أو مساءلة حقيقية، يجري تحويل المال العام بسهولة بالغة إلى دعاية انتخابية أو يُحوّل إلى دفع أجندة سياسية في جميع أنحاء النظام السياسي العراقي.
لقد فشل العراقيون في تحقيق انتقال سلمي للسلطة، سواء عبر صناديق الاقتراع أو عندما أُجبروا على النزول إلى الشوارع بشكل جماعي. ولم تكن استقالة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي في عام 2019 نتيجة لآلية دستورية أو استجابة لمطالب احتجاجات حركة تشرين ولم يتنح رئيس الوزراء إلا عندما أدلى المرجع الديني الأعلى في العراق في النجف، آية الله علي السيستاني، بتصريح سياسي نادر مفاده أن مجلس النواب الذي انبثقت منه الحكومة الحالية مدعو إلى إعادة النظر في اختياره في هذا الصدد والعمل بما تمليه مصلحة العراق والحفاظ على دماء أبنائه، وتجنب الانزلاق إلى دوامة العنف والفوضى والدمار.
وكان بمقدور الأحزاب الإصلاحية المتبقية في هذه الأثناء، أن تُقدّم نفسها كبديلٍ مُقنع، مُستغلةً الغضب الشعبي وتراجع ثقة الشارع بالأحزاب التقليدية. لكن ما حدث هو العكس: فشلت مُعظم الأحزاب السياسية الجديدة التي دخلت مجلس النواب في أعقاب احتجاجات تشرين في تقديم نموذجٍ بديل للسياسة العراقية. وسارع بعض نوابها إلى تشكيل تحالفاتٍ مع الأحزاب نفسها التي انتقدوها، مُقوّضين بذلك خطابهم الصاخب. بل وفشل آخرون في تحديد نهجهم تجاه النظام السياسي: فهل َمثّل َبرنامجهم انحرافًا حقيقيًا عن السياسة الحزبية القائمة، أم أنه كان يهدف إلى إعادة إنتاج الوضع الراهن مع تعديلاتٍ طفيفة؟ في ظلّ غياب الوضوح بشأن هذا السؤال المحوري، شهدت الأحزاب الجديدة تراجعًا ملحوظًا في شعبيتها، وتزايدًا في خيبة الأمل، وترسخ اعتقاد الجماهير أكثر بعدم وجود فرق بين الجديد والقديم.
وفي ضوء هذه الإخفاقات الواضحة للنظام الانتخابي العراقي، يُظهر العراقيون عدم ثقتهم بالعملية الانتخابية في بلادهم بانخفاض معدلات المشاركة. وسجلت المفوضية العليا للانتخابات مع كل دورة انتخابية، انخفاض نسب مشاركة أقل من 41%، وانخفضت في بعض المحافظات إلى أقل من 30%. حتى هذه النسبة لا تشمل سوى حاملي بطاقات الاقتراع الفعليين، ولا تشمل العدد الإجمالي للناخبين المؤهلين المحتملين. وبالتالي، فإن نسبة مشاركة جميع الناخبين العراقيين المحتملين أقل بكثير من التقديرات الرسمية.
ويشير انخفاض نسبة المشاركة إلى خيبة أمل شعبية عامة من الفرصة الانتخابية في العراق، بالنظر إلى الدور المفهوم على نطاق واسع للجهات المسلحة الحكومية وغير الحكومية، والأموال غير الخاضعة للرقابة في السياسة. المواطنون الذين يعتبرون أصواتهم غير ذات أهمية عندما تُفضّل نتائج الانتخابات أصحاب السلاح والمال والدعم الخارجي، سيفقدون اهتمامهم بالعملية الانتخابية غير المجدية. ويتطلب اصلاح السياسة العراقية ظهور قادة مستقلين شرفاء ووطنيين حقا، قادرين على تقديم بديل عملي للوضع الراهن. ومن دونهم، سيظل المواطنون العراقيون متشككين في نظامهم السياسي.
إن لديمقراطية هي الوسيلة الأسلم والأكثر فعالية لإحداث التغيير والإصلاح بما يضمن حقوق جميع المواطنين. ومع ذلك، من المهم النظر إلى أساس هذا النظام السياسي. فالنخبة السياسية التي تحكم العراق منذ عام 2003 نشأت نتيجة تدخلات خارجية، ولا تزال تستمد بعض شرعيتها ودعمها من جهات دولية وإقليمية. ولذلك، قوبلت محاولات الإصلاح الجذري من داخل النظام بمقاومة اجنبية شديدة، إذ تعمل هذه القوى الخارجية بأي ثمن للحفاظ على نفوذها.
· ترجمة بتصرف عن تقرير معهد الشرق الأوسط في موسكو











جميع التعليقات 1
زاهر الشاهين
منذ 4 شهور
نعم لقد فصلوا الديموقراطيةبما يناسب اهوائهم واحزابهم والبؤر المحيطة بهم. ان عدم اقرار قانون الاحزاب ونظام الانتخابي الموحد تبق العملية السياسية عرجاء . ان الفساد يولد من بطن الخراب السياسي. يبقى الامل في افئدة محبي العراق. نعم شرعوا للفساد فاصبح ثقافة.