TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قرار استحداث كليتي "التميّز" و"الذكاء الاصطناعي": قراءة نقدية في ضوء تحديات النظام التعليمي العراقي

قرار استحداث كليتي "التميّز" و"الذكاء الاصطناعي": قراءة نقدية في ضوء تحديات النظام التعليمي العراقي

نشر في: 30 يوليو, 2025: 12:02 ص

د. طلال ناظم الزهيري

في ظل التوجه العالمي نحو التحول الرقمي والتسارع الكبير في تقنيات الذكاء الاصطناعي، تأتي قرارات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي باستحداث كليتي "التميّز" و"الذكاء الاصطناعي" في جامعة بغداد، كمبادرة يبدو أنها تهدف لمواكبة هذا الحراك المعرفي العالمي. غير أن هذه الخطوة، وعلى الرغم من ما تحمله من نوايا تطويرية، تثير في نظري - كأكاديمي متخصص في علم المعلومات وإدارة المعرفة، وعضو في لجان تطوير المناهج التعليمية - العديد من التساؤلات الجوهرية المتعلقة بواقع التعليم العالي في العراق، ومدى مواءمة مثل هذا القرار مع التحديات البنيوية التي ما تزال تعيق مسيرة الإصلاح الحقيقي.
إن استحداث كليات جديدة في أي نظام جامعي لا يُفترض أن يكون استجابة شكلية لموجات التخصصات الحديثة، بل يجب أن يستند إلى حاجات موضوعية ترتبط بسوق العمل، وتطورات البحث العلمي، ومسارات التنمية الوطنية. وعند مراجعة التخصصات المقترحة ضمن كلية "التميّز" – وهو بالمناسبة اسم لا أجد له مبررًا مفاهيميًا واضحًا – يتبيّن أن أغلبها، مثل نظم المعلومات التطبيقية، علم البيانات، إدارة الأعمال الإلكترونية، المحاسبة والمصارف، تُدرس بالفعل ضمن برامج كليات قائمة وفاعلة مثل كلية علوم الحاسوب وتكنولوجيا المعلومات، وكلية الإدارة والاقتصاد.
أما قرار ضم تخصصات الفلسفة وعلم الاجتماع ضمن هذه الكلية الجديدة، فهو يطرح مفارقة إضافية لا يمكن تجاهلها. هذه التخصصات لطالما كانت جزءًا من كلية الآداب، وتخضع لطبيعة أكاديمية وإنسانية مختلفة عن الطابع التكنولوجي والإداري المزعوم في كلية التميّز. كما أن هذه التخصصات تواجه أصلاً تحديات معروفة، منها ضعف الإقبال عليها وعدم وضوح صلتها بفرص العمل الحديثة. فهل من المنطقي إعادة تقديمها ضمن غلاف مؤسسي جديد، دون معالجة جذور هذه التحديات؟ أليس من الأجدر تطوير المناهج وتحديث أساليب التدريس في موقعها الطبيعي بدلاً من إزاحتها إلى فضاء غير منسجم معها معرفيًا؟
من خلال تجربتي في تطوير المناهج الأكاديمية في عدد من الجامعات، أؤكد أن المسألة لا تتعلق بتغيير العناوين الإدارية أو إحداث كليات مستقلة، بل بكيفية بناء برامج تعليمية مرنة، حديثة، وتكاملية، تستثمر الموارد المتاحة وتستجيب بفعالية للمتغيرات. إن إنشاء كليات جديدة دون معالجة مواطن الضعف في البنى التحتية والقدرات التدريسية المتاحة، قد يؤدي إلى تكريس الهشاشة المؤسسية، لا تجاوزها.
ولعل ما يزيد من إشكالية هذا القرار هو الجدول الزمني الذي حددته الوزارة، حيث من المقرر استقبال الطلبة اعتبارًا من العام الدراسي المقبل (2025–2026). هذا التوقيت، كما يبدو، لا يتيح المجال الكافي للتخطيط الرصين ولا لاستكمال المقومات الأساسية المطلوبة. إن إنشاء كلية في مجال دقيق كالذكاء الاصطناعي يتطلب إعداد بنية تحتية تقنية متقدمة، وتوفير كوادر بشرية ذات كفاءة عالية، وتصميم مناهج متخصصة وفق معايير أكاديمية دولية. وكل ذلك لا يمكن إنجازه خلال أشهر قليلة، دون أن يؤثر على جودة التنفيذ ومصداقية المشروع.
لقد أثبتت التجارب الدولية أن النجاح في إدخال التخصصات المستقبلية لا يتحقق عبر الهياكل الجديدة فقط، بل من خلال نماذج تعليمية مرنة تعتمد على التعاون بين الكليات القائمة، وتقديم برامج مشتركة تجمع بين المعرفة التقنية والمعارف الاجتماعية والاقتصادية. هذا ما نحتاجه فعليًا في الجامعات العراقية: حلولًا تكاملية، لا انشطارات مؤسسية.
إن ما يحتاجه التعليم العالي في العراق اليوم هو إصلاح جذري، يقوم على تقييم البرامج القائمة، وتحسين جودة التعليم، ورفع كفاءة الكوادر الأكاديمية، وربط المخرجات بحاجات المجتمع وسوق العمل، ضمن رؤية وطنية متكاملة تتجاوز التفكير القطاعي أو اللحظي. ومن هنا، فإن اتخاذ قرارات كبرى كهذه يجب أن يتم بناءً على دراسات معمقة يشارك فيها خبراء ومتخصصون من داخل الحقل الأكاديمي ومن خارجه، لضمان أن تكون خطوات التحديث منسجمة مع أهداف التنمية البشرية، لا مجرد استجابات إدارية متسرعة.
إنني، من موقعي المهني والأكاديمي، أؤمن بأن تحديث التعليم العالي في العراق ضرورة حتمية لا مفر منها، ولكن هذا التحديث لا ينبغي أن يتم من خلال إنشاء كليات جديدة دون فحص دقيق للجدوى. الجرأة الحقيقية ليست في إضافة مسميات مؤسسية، بل في إعادة التفكير في فلسفة التعليم نفسها، والاعتراف الصريح بمواطن القصور، والعمل بشجاعة على إصلاحها.
ختامًا، فإن بناء مستقبل معرفي متين في العراق يمر عبر قرارات استراتيجية هادئة ومدروسة، تقوم على المعرفة، وتستثمر العقل الأكاديمي الوطني، وتُبنى على الشراكة. جامعاتنا تمتلك الإمكانات الفكرية والكفاءات البشرية، لكننا بحاجة إلى استراتيجية تعليمية تؤمن بأن الإصلاح لا يبدأ من القمة الإدارية، بل من قاع القاعة الدراسية، ومن عمق البرنامج الأكاديمي، ومن صوت الأستاذ الذي يسهم في صياغة مستقبل الأجيال.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 5

  1. د.سلام جاسم عبدالله

    منذ 5 شهور

    اجدت دكتور وجهة نظر منطقية بدلا من استحداث مناصب جديدة وبنى تحتية بالفعل لما لم نجعل نظم المعلومات في موقعها الحالي بكل الجامعات انموذجا في التغيير من مناهج وكفاءات ادارية وتدريسية وهكذا لبقية التخصصات بدلا من استحداث تشكيل جديد يضاف إلى ذلك

  2. د. علاء العاني

    منذ 5 شهور

    المقالة أثارت تساؤلات وعلامات استفهام قيمة عن جدوى استحداث كليات جديدة وإعطاءها تسميات وعناوين براقة. بما أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي تدخل في كل المجالات مثل الطب والهندسة والزراعة وغيرها، أعتقد من الافضل أن يتم إدخالها كمادة إضافية في الكليات المختلفة.

  3. د. علاء العاني

    منذ 5 شهور

    أما الاختصاص الدقيق الذي يعنى بهندسة الذكاء الاصطناعي واللوغارثميات المكونة له فيمكن ادراجها كفرع من فروع علوم الحاسبات وتكنولوجيا المعلومات الموجودة أساساً في الجامعات العراقية

  4. اد د.يوسف الاسدي

    منذ 5 شهور

    السلام عليكم دكتورنا العزيز نعم اتفق معكم بالكامل ولا اعتقد هناك علاقة مابين التسمية والتخصصات اولا فضلا عن ذلك هي عبارة عن اعادة لما موجود من تخصصات في كليات اخرى بمعنى اخر لا اجد مبرر للتكرار في التخصصات ما دامت موجودة اصلا وكان بالاحرى تغير مناهج هذه

  5. Dr-hamed Alkinane

    منذ 5 شهور

    الحقيقة التخبط وعدم التخطيط ان الذكاء الاصطناعي هو فرع من فروع علوم الحاسبات المفروض يانسون إلى معهد عالي للذكاء الاصطناعي يعطي شهادة دبلوم عالي . يشمل التخصصات ١.هندسه ميكاترونكس ٢.هندسه البرامجيات ٣ هندسه الكترونيك ٤.علوم الحاسبات ٥.سيطرة ونظم فقط هؤلاء

يحدث الآن

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram