طالب عبد العزيز
هل يمكننا إعادة قراءة كتاب عن الحب في العمر المتأخر هذا؟ وبعد التجارب العملية والحسيّة والقرائية، هذه الهواجس التي تعلقنا بها ذات يوم، وكانت مادة أيامنا وليالينا، ينبوع ضوء أعمارنا، أيمكن استعادتها في لحظة حبٍّ حقيقية؟ أو في لحظة قرائية مستعادة لكتاب قديم عن الحب حتى؟ يكتب ادورد خراط في (رامة والتنين): "هل الحبُّ هو هذا الألم؟ في وسط ميدان التحرير الغاص بالوحوش والمسوخ. هل هو وجهها الآخر(يقصد رامة) الماثل أبداً في الزمن" ثم يكتب جملة كأنها خارج متن الرواية، جملة شعرية غاية في الجمال والاناقة" أجساد الأعشاب البحرية التي جففتها الشمس في صفرة عينيها".
ماذا يعني أن تعيد قراءة رواية هي قطعة من أجمل ما كُتب في أدبنا العربي، رواية عن الحب المظنون به، المخشيِّ عليه مثل رامة والتنين؟ وسط المجازر البشرية، وسط العلاقات المشبوهة، داخل الإنسان المحطم، في هذا الضجر الكوني، وهذا اليأس، شخصياً أذهب الى أعمال كهذه لكي أنفصل عن كل ما يحيط بي من آثام وحُمق وإنهيارات. أرى أنَّ الإنسانية كلها بحاجة الى لحظة تدوير عاطفي- انساني، الى صيرورة أخرى في فهم ما يحدث لنا كأشخاص ومجموعات، كما أرى أن قراءة أعمال كهذه ستكون بمثابة نقطة التوازن في عالم مضطرب، عندي، وربما بشكل شخصي جداً أنَّ التفكير في الصخب العام المعلن هذا إيذان ببدأ لحظة انهياري، وبمعنى ما فأن قراءتها تعني لي استرداد شيئٍ من وجود آيل الى حتميته الفيزيقية لا محال! ذلك لأننا مجتمعين لا نملك إلا أن نسمع ونقرأ ونرى الاعمال العظيمة، فهي محاولة في ا ستعادة التوازن الشخصي، في أدنى مراتبه.
أعمال كهذه لها القدرة على رؤية العالم بشكل افضل، وإن لم نقرأها ستعجل في وضع نهاية كريهة له. تستيقظ رامة من نومها فجأة فتجد نفسها تهذي في حلم، فيقول لها ميخائيل: "من هو الرجل الغريب؟ وحين تستعيد توازنها تقول: نعم، من هو؟ " ونحن نقول حقاً من هذا الغريب؟ كيف تحلم امرأةٌ برجل غريب في لحظة طمأنينتها وانتشائها بحبيبها الراقد الى جانبها؟ ولماذا تصاغ الاحلام، أحلامنا بالصوغ المريب هذا؟ مَنْ الغريب الذي ينو في أحشائنا، نحن المسكونين بالحب، أهو التاريخ، أم الدين، أم الأرض، أم الأسماء؟ بالتأكيد هناك شيء آخر غير الحب!، ربما يكون الموت، نعم، الموت بعينه، هذا المؤجل في أعيننا دائما، بالتأكيد ليس الموت بفهمنا القاصر له لكنه الموت المُختار لنا من الخارج، ذاك المجهول المطلق.
أحياناً أسأل كيف استطاع العبقري الخراط، هذا القبطي الاخذ بناصيتنا كقراء الى عالم رواياته التي لا يمكن استعادتها؟ وما الذي يجعل مما يكتبه روايةً، هذه الجمل الشعرية، الغارقة في المجازات والاستعارات التي تأخذنا بعيداً أنّى لها أنْ تكملَ في نصٍّ روائي؟ لكنَّ الخراط (ميخائيل) عاش طوال عمره غريباً في أرض وطنه! وعرف لحظتها ما معنى أن تقول له امرأةٌ يحبّها:" يا حبيبتي! ميخائيل الذي تحسسَّ لأول مرة، بين ذراعيها الخمريتين في بضاضتهما الممتلئة (رامة) بالحنو طعم أنْ يكون في أرضه! هل كان الخراط ضامناً لوجوده الإنساني في الحبِّ والخبز والحرية في الأرض التي كانت لأسلافه الاقباط قبل مئات السنين؟ وإذا كانت كذلك، هل يعني هذا زوال المُهدد؟
في اللحظة الاستثنائية التي تجمع رامة وميخائيل كان يقول لها:" إنَّ كلمتها وهي تناديه بلغته في ارض غريبة(ياحبيبي) كانت طعنةً عذبةً، ما أعذبها فقد نزفت لها كلُّ دماء قلبه" الشعور المُهَددُ الحسُّ المنتقصُ، والحبُّ المستقطعُ، الطمأنينة العابرة ذلك ما يشعر به ميخائيل في الأرض المنقسمة، لأنه يملك الجزءَ الأصغر فيها، هذا الانتماء غير المستوفى بالتضحيات الكبيرة هو ما يريد أن يقوله لنا في الرواية. " لكنني يا حبيبتي أعيشهما معاً، إندفاع كأنه احتضان الوجد، ونكوص كضربة البتر معاً". اصطدام وافتراق لا يتوقفان ابداً، نسيجٌ نفسيٌّ ينقطع ويلتئم.










