فريدة النقاش كنت أتصور أن الحياة السياسية والفكرية سوف تتوقف طويلا أمام الاتجاه الذي أخذت بوادره تلوح في أوساط المسيحيين المصريين للانفلات - كمواطنين من قبضة الكنيسة - ولكن علامات هذا الاتجاه مرت مرور الكرام في زحام التطورات اليومية لثورة 25 يناير، رغم أن هذا الذي يحدث في أوساط المسيحيين هو إشارة ثورة لا يجوز أن نمر عليها بسهولة، كما أنه ثمرة من ثمار 25 يناير الإيجابية.
لقد دأبت الكنيسة منذ قيام ثورة يوليو 1952 ومصادرة الحريات السياسية في ظلها على التحكم في جموع المسيحيين وتوجيههم في الاتجاه السياسي الذي تختاره واشتد هذا التحكم منذ تفاقمت وقائع الصراع الطائفي مع بداية السبعينيات من القرن الماضي، وازدياد الاحتقان بين المسلمين والمسيحيين كنتيجة منطقية لسياسات السادات التي وصفها باحثون بالأسلمة من أعلى حين رفع شعار دولة العلم والإيمان وأعلن نفسه الرئيس المؤمن محمد أنور السادات بعد أن كان معروفا على مدى تاريخه باعتباره أنور السادات فقط، وتحالف مع الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الجهادية لمحاصرة اليسار الشيوعي والناصري في الجامعات وفي المجتمع، وحتي يسوق سياساته المعادية للخط الوطني والاجتماعي لثورة يوليو، وصولا إلى تعديل الدستور سنة 1980 لتصبح الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع بعد أن كانت أحد مصادره وحينها اعتكف البابا شنودة في الدير احتجاجاً.وفي ظل هذا المناخ بدا أن قطاعا متزايداً من المسلمين يحدد خياراته السياسية طبقا لأفكار وأهداف الجماعات الإسلامية المختلفة.بينما تحدد الكتلة الرئيسية من المسيحيين الأرثوذكس وهم أغلبية المسيحيين في مصر خياراتها السياسية وفقاً لما تراه الكنيسة والبابا، وهكذا جرى حرث الأرض وتمهيدها للدولة الدينية رغم ادعاء الإخوان المسلمين - خاصة في هذه الأيام - أنهم لا يتطلعون إلى إنشاء دولة دينية بل دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية وهو تعبير مراوغ أفصح عن مراوغته برنامج الحزب الذي طرحوه عام 2007 والذي نصّ على إنشاء هيئة من العلماء تقرر مدى إسلامية القوانين والممارسات السياسية، كما أنه هو نفسه البرنامج الذي استثنى النساء والمسيحيين من الترشيح لرئاسة الجمهورية رغم الحديث عن المواطنة.وأمام النفوذ المتزايد للجماعات الإسلامية السياسية مع تلاعب مؤسسات الدولة الثقافية والإعلامية بقضية الدين تزايد لجوء المسيحيين إلى الكنيسة وابتعادهم عن مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات وجمعيات أهلية وروابط خاصة أن هذه المؤسسات ظلت عرضة للحصار وفرض القبضة الأمنية عليها من قبل الدولة البوليسية.وعبر تراكم طويل لأشكال الكفاح المختلفة التي خاضتها القوى الديمقراطية والعمالية انفجرت ثورة 25 يناير ونجحت في إسقاط النظام البوليسي الأبوي كخطوة أولى على طريق طويل للتحرير، وفي هذا السياق نضج التيار المسيحي ضد سطوة الكنيسة وهيمنتها على الخيارات السياسية لرعاياها، خاصة أن الحسابات السياسية للبابا «شنودة» جنبا إلى جنب الخوف من النفوذ المتزايد للإسلام السياسي جعلته يحول الكنيسة إلى ملحق للحزب الوطني الديمقراطي ويدعو المسيحيين للتصويت لمرشحيه في كل الانتخابات فبات معروفا عبر سنوات أن الكتلة التصويتية الرئيسية للمسيحيين هي رصيد للحزب الوطني الحاكم، بل إن إشارات كثيرة صدرت عن الكنيسة تساند «جمال مبارك» كمرشح محتمل لرئاسة الجمهورية وهو ما أثار استياء الكثيرين حتى بين المسيحيين أنفسهم خاصة مع اشتداد الحركة المناهضة للتوريث.والآن وبعد الخطوة العملية والرمزية معاً التي أسقطت النظام الأبوي بعد ثورة 25 يناير أخذت الكنيسة تتراجع كمؤسسة سياسية، وتعود إلى دورها الأصلي كمؤسسة دينية.وثمة حاجة ماسة الآن لعمل سياسي متواصل من أوساط المسيحيين لجذبهم إلى الحياة السياسية الديمقراطية العامة كمواطنين، فانخراطهم في الحياة السياسية على هذا النحو وهو ما لاحت بوادره مع التيار الجديد في أوساطهم يشكل إضافة مهمة للنضال الديمقراطي ككل ضد كل أشكال الأبوية والتسلط، وضد توجهات قوى الإسلام السياسي لإلباس الصراع الاجتماعي ثيابا دينية وتزييف وعي الجماهير المؤمنة في سعيها إلى قوى الإسلام السياسي لتحويل هذا الإيمان إلى سياسة تفرق بين المواطنين علي أساس الدين والجنس وهو ما لاحت بوادر لرفضه في أوساط ثوار 25 يناير، وبات تطوير هذا التوجه مهمة نضالية صراعية طويلة المدى ضمن العمل المنشود لتطوير الثورة.
سلطة الكنيسة السياسية
نشر في: 8 مارس, 2011: 04:37 م