(الجزء الرابع) غي هارشير ترجمة: رشا الصباغ سعياً لوعي ينفتح على مديات تنويرية هي من مستلزمات البناء الديمقراطي الجديد، وتحصيلاً لفائدة الاطلاع على تجارب العالم في الارتقاء بالانسان وحقوقه، تعيد آراء وأفكار نشر كتاب العلمانية، على حلقات، للكاتب غي هارشير وبترجمة رشا الصباغ.
2- المدرسة الرسميّة: قوانين فيرّي قلّصت الجمهوريّة الثالثة في البداية من سلطة التقدير المعطاة للكنيسة في التعليم الخاصّ: احتفظت الكنيسة بحريّتها العقائدية ولكن وجب عليها مذ ذاك (التوصّل إلى إعطاء تلاميذها مستوى المعرفة نفسه الذي يتلقّاه تلاميذ المدارس العامّة). غير أنّ مبادئ حريّة التعليم وحياديّته الحاليّة لم تجد طريقها للتطبيق إلاّ في عام 1880. لقد ردّت علمانية فعّالة ناشطة على (إعادة) تطييف التعليم. فأحلّ قانون 28 آذار/ مارس 1882 (التعليم الأخلاقيّ والمدنيّ) محلَّ (التعليم الأخلاقيّ والدينيّ)؛ كما عُلمنت المناهج، وتوجّب نزع الشعارات الدينيّة (مع ترك الحريّة للمحافظ في التصرّف بهدوء وحكمة يتمثّلان باحترامه الأوضاع المحلّية وبتحاشي الاستعجال). ثمّ عَلمن قانونُ 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1886 الملاك التعليميّ للمرحلة الابتدائيّة. أمّا بالنسبة للتعليم الثانوي، فلم يكن لمبدأ علمانيّة ملاك التعليم سوى قيمة عرفيّة، كُرِّست بقرار من مجلس الدولة في عام 1912. لقد أُكمل مبدأ العلمانيّة بمبدأ الحياد، الذي كان محطّ تأويلين متناقضين. فهناك أوّلاً التصوّر الذي يدافع عنه فيردينان بويسون قائلا: (الكنيسة منطقيّة، ينبغي أن تكون معها أو ضدّها. والمدرسة العلمانيّة ليست شيئاً دون اسم أو دون سمة. لا بدّ من الاختيار: فإمّا المدرسة العقلانيّة أو المدرسة الكهنوتيّة. لا شيء بين الاثنين.) ثمّ هناك (الحياديّة الوادعة) حسب رأي جول فيرّي: (حين تعرض على طلاّبك وصيّة من الوصايا أو حكمة من الحكم، اسأل نفسك إن كان هناك، في حدود علمك، إنسان شريف واحد يمكن أن يستاء ممّا تنوي قوله. اسأل نفسك هل ثمّة ربّ أسرة، واحد فقط، إن كان حاضراً في صفّك، قد يرفض، عن حسن نيّة، الموافقة على ما يسمعه. إذا كان الجواب بنعم، فامتنع عن قوله، وإلاّ فتكلّم بجرأة، ذلك أنّ ما ستنقله إلى الطفل ليس حكمتك، بل حكمة الجنس البشري... ينبغي على المعلّم أن يتجنّب، كما يتجنب اقتراف سيئة، كلَّ كلام أو تصرّف من شأنه أن يمسّ المعتقدات الدينية للأولاد الذين عُهد بهم إليه، كلَّ ما قد يبعث الاضطراب في أذهانهم، وكلَّ ما قد يشي من جهته بقلّة الاحترام أو التحفّظ إزاء رأي ما مهما كان.) سوف نلاحظ أنّ هذا التعارض بين فلسفتين مختلفتين للحياد (وإن كانت المواقف العامّة لفيرّي وبويسون أكثر تعقيداً ممّا يظهره لنا هذان الاستشهادان المقتضبان) هو بحد ذاته إشكاليّ وما زال حتى اليوم يثير مناقشات حامية الوطيس وسط فريق مناصري العلمانيّة: فهناك من جهة الفكرة التي تتحدّث عن علمانيّة قويّةٍ بقواعدها العقلانيّة، معارِضةٍ لتدخّل الإكليروس في الشؤون العامّة (وهذا طبيعي) ولكن أيضاً مضادةٍ للدين أحياناً (وهو أمر فيه نظر من حيث أنّ هناك فئةً من الشعب لا تريد أن ترى التعليم الرسميّ يحطّ من قيمة معتقداتها: في تضمّنه لشيء يقوم على تجريد الدين من سلطته (السياسيّة)، أو على استخدام المجال العامّ لشنّ حرب على الدين). جول فيرّي، الذي سيغلب تصوّره على التعليم العامّ في فرنسا، فهم الأمر جيّداً، ربما إلى حدّ أنّ اقتراحه، المتسامح النبيل، يكاد يستحيل الدفاع عنه: إذ أنّ (رأياً ما) (كي يتوجّب احترامه)، ليس أيّ رأي كان، ما دامت هناك آراء تسيء إساءة مباشرة إلى القيم الإنسانيّة والديموقراطيّة، فكيف بوسعنا اليوم أن نتخيّل أستاذاً يقف (على الحياد) في مواجهة النازيّة والليبراليّة السياسيّة أو حيال التعصّب الديني والانفتاح الذهني؟ سوف نرى في ما بعد، عندما سندرس الأسس الفلسفيّة للعلمانيّة بحدّ ذاتها، كيف أنّه بالإمكان إثبات الفارق بين تبنّي آراء مختلفة وجديرة بالاحترام ضمن إطار تعدّدية القيم، واتخاذ مواقفَ تقوّض مبدأ العلمانية نفسه. ولكن الطريق الواجب إتباعه هنا محفوف بالمخاطر: فالعلمانيّة نفسها مسألة خلافيّة مثيرة للجدل، ولا يجوز أن نقوم باسم أحد تفسيراتها الممكنة بقمع التفسيرات الأخرى. وقد يكون من المؤسف للغاية بخاصّة، وبذريعة معضلات (موقف فيرّي) غير القابلة للحلّ، الانكفاء إلى عقلانيّة دغمائيّة ومتشدّدة (ما كان بويسون نفسه على الأرجح ليقبلها). في التعليم الرسميّ الابتدائيّ، توجّب إعطاء التعليم الديني، بمقتضى قانون 28 آذار/ مارس 1882، خارج المباني المدرسية، وبناء على قرار صدر في العام نفسه، خارج أوقات الدوام المدرسي. سرى مبدأ الحياد أيضاً على التعليم الثانويّ الرسميّ؛ فلم يعد هناك تعليم عامّ مذهبيّ للدين. لم يُبحث الموضوع بالنسبة للتعليم العالي، ذلك أنّه كما قال ليار: (الحريّة امتياز للعقل وشرط للعلم.) يجب أن يكون التعليم متاحاً للجميع، وبالتالي ينبغي عند الضرورة فرضه على العائلات، بطريقة تضمن المساواة والتنشئة المواطنيّة: (حريّة الجهل لا وجود لها.) والإلزام يفرض المجانيّة، أي الوس
العلمانية
نشر في: 8 مارس, 2011: 04:39 م