TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: سرّ القراءة الأولى

قناديل: سرّ القراءة الأولى

نشر في: 3 أغسطس, 2025: 12:04 ص

 لطفية الدليمي

أمّا السرّ فهو السحر والدهشة؛ وأمّا القراءة فهي لروايات الطفولة البعيدة وحتى أعتاب البلوغ. لنقُلْ حتى منتصف عشرينات العمر. أمّا التفاصيل في العنوان فإليك الحكاية.
اعتدتُ كلّ سنة ومنذ ما يقاربُ العشرين عاماً على إعادة قراءة روايات محدّدة. في العادة أختارُ ثلاث روايات: واحدة من المطوّلات الروائية الكلاسيكية، وكثيراً ما تكون رواية من الأدب الروسي (تولستوي ودوستويفسكي في أغلب الأحايين). الرواية الثانية هي نوفيلّا أو ما يقربُ منها طولاً؛ أمّا الثالثة فهي رواية كتبتها روائية. الشرط الأوحد في هذه القراءات أن تكون منشورة قبل نصف قرن أو أكثر، وليس شرطاً محتّماً أن تكون القراءة إعادة لقراءة سابقة؛ فقد يحصل في أحيان قليلة أن أقرأ عملاً قديماً لم أقرأه من قبلُ. المرء ليس (طرزان) قراءة قرأ كل شيء وختم كلّ الروايات؛ لكنّي أؤكّدُ أن تكون القراءة إعادة في غالب الأحيان.
هي ليست نزوة نوستالجية بقدر ما هي تجربة في الفحص النفسي والمساءلة الإستكشافية لدور الزمن في فهمنا وذائقتنا لِما نقرأ من روايات. لذا عندما يحصل تخالف متباين في وجهات النظر بين رؤيتك لرواية ما مع رؤية آخرين أرى من المناسب أن يكون السؤال الأوّلي حاضراً قبل كلّ المجادلات النظرية: متى قرأت الرواية؟ في يفاعتك أم في شبابك (بطوريْه المبكّر والمتأخّر) أم في سنواتك المتقدّمة؟
القراءة الأولى للرواية ونحنُ يافعون بعدُ تبدو كطيف حُلْمي جعلك مسرنماً مشدوهاً ومتحلّلاً من قبضة الزمان والمكان والبيئة. كثيرة هي الأمثلة. لا يمكن أن نتناسى ما فعلته روايةٌ على شاكلة (البؤساء) أو (الجريمة والعقاب) أو (الشيخ والبحر) في أرواحنا. أوقن أنّ كثيرين منّا قرأوا (الشيخ والبحر) في جلسة ممتدّة واحدة من الصباح إلى المساء وقد تناسوا أمر الغداء وشاي العصر وحتى برامج التلفاز المسائية في ستينات وسبعينات القرن الماضي. لن نستطيع بالطبع قراءة المطوّلات الروسية في جلسة واحدة؛ لكنْ من المؤكّد أنّ تجربة السرنمة الروائية يمكن أن تتكرّر معها لأيّام طويلة قد تستغرق العطلة الصيفية كلها على سبيل المثال. إنّها لذّة فردوسية من العسير أن نجد لها نظائر في سنوات العمر اللاحقة وبخاصة بعد نصف قرن وأكثر من تجربة القراءة المبكّرة الأولى.
ما يحصل في تلك القراءة الأولى هو أنّنا نقرأ مدفوعين بزخم طاقة التخييل الخالصة المقترنة بالدهشة والإنبهار. التخييل قوة أساسية من قوى البشر الطبيعية، وهي وسيلة ستراتيجية لنا في إحتمال العيش والتفوّق على محدوديات الحياة التي نخضع لأحكامها الصارمة. عندما تقترن طاقة التخييل بالدهشة تحصل السرنمة: ذلك الشعور المحبّب بأنّك تعيش عالماً غير الذي تعرفه وطالت ألفتُك به، ولا تريد مغادرته. شيء أشبه بواحد من المكيّفات العقلية الطيبة بعكس أخرى تقود لنتائج مدمّرة للعقل والروح.
أمّا القراءات اللاحقة ففي العادة يحصل فيها تناقص لمنسوب الدهشة والتخييل مع تزايد مفعول العقل التحليلي الذي يبحث ويدقّق. سيكون أمراً شاقاً للغاية أن تتحقق تلك السرنمة اللذيذة السابقة في الأيّام الخوالي وأنت تدقّق في عبارة هنا ومقطع هناك وتحاول تفكيك متبنياته الفلسفية أو النفسية.
ربّما هناك فوارق نوعية بين العقل الروائي والعقل التحليلي. المثير أنّ الروائيين الكلاسيكيين الأوائل كانوا أساتذة مهرة في تحقيق الدهشة الروائية حتى لو قرأناهم في مراحل متقدّمة من أعمارنا؛ في حين صارت الجرعة التحليلية أكثر تركيزاً في الروايات الحديثة والمعاصرة.
لستُ أدركُ تماماً ما الذي أسعى إليه من تجربتي الشخصية في إعادة قراءة روايات قرأتها قبل نصف قرن. ربما هو مسعى لتحفيز بواعث لذّة القراءات الأولى، أو تذكّر حقيقة أنّ الإنغمار في الفضاء التحليلي الذي يغمر عالمنا يجب مواجهته بوسائل منها إستذكارُ قراءاتنا القديمة.
لا أظنّنا سننجح في استعادة لذّة القراءة الأولى بكلّ دهشتها وطاقتها السرنمية؛ لكن في الأقلّ يمكن أن نعيش تجربة حيّة في الإسترخاء وتفعيل طاقة التخييل الخالصة التي قد تكون خَبَتْ تحت ركام متطلبات العيش الثقيلة.
فلنجرّبْ كل سنة إعادة قراءة بعض ما قرأناه في بواكيرنا الأولى. جرّبْ قراءة (الشيخ والبحر) أو (الأخوة كارامازوف) أو (دون كيخوته) من غير تأشير لملاحظات أو إنشغالات جانبية. قراءة مسترسلة فحسب. جرّبْ تحييد عقلك التحليلي التماساً لتحريك طاقة التخييل الخالصة.
أظنّ أنّ التجربة تستحقّ المحاولة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. د.محمد عزيز زازا

    منذ 5 شهور

    صحيح جداً ماكتبتِ المطبعة لطلفة الدليمي، ولكن ماذا عن رواية الفراشة-هنري شاريير؟ وتكملتها بانكو؟ ادب الحديث قد الكثير من الروائع كذلك. ربما النوسالجيا لوحدات لم تعد تكفي.

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram