ياسين طه حافظ
يوما، وفي مثل انتباهة المسروق او المخدوع، وقفت امام اللاشيء. باهتاً في الفراغ. مخلوقاً من خشبٍ تسرب المعنى من شقوق هيكله.
للغفلة تاريخ، ولكني لم اغفل مثل هذه الغفلة. كيف وانا على بيّنةٍ من دائرة عيشي واعرف الطريق الى اين، كيف مرّ بي ذلك الغزال ولم انتبه، لم اشبكه بذراعيَّ فلا يفلت ويمضي؟ كيف ارتضيت المفاجأة وكأنْ كانت بيننا صلات ولا جديد؟ الان عرفت اني لا افهم ما يجري وان هذه ظواهر دنيا لا اعرفها وان كثيرا من الاحداث هي غير التي عرفت.
في اجواء حماستنا او رغباتنا لنكون، ابتدأنا المتاه في الرمال. نعرف ما نريده من الوصف، من الافواه والكتابة. لم تكن الكتابة على الجدران واضحة ولم تكن اللافتات التي ظلت وحدها تخفق في الريح. يالأسفنا كانت ترسم فضاءات ودعوة لحفلة نصر، وكنا نحسب الساعات، حينما فلتَ، خطفَ بيننا الغزال!
مسّنا اللهب، فركضنا عواما واصحاب مهن وكتّاب وثائق وناس قانون ومعلمين وسادة صاروا خدما وخدما مطرودين.. ركضنا جميعاً وراء الغزال..
ما يزال الحلم، ما يزال الغزال النادر الذي لاح لنا خطْفاً وما نزال نركض جموعا وراه.
ما يزال هو يتقدمنا بمسافة تبدو قصيرة وهي شاسعة. ايقنّا اخيراً انه بعيد لكننا بقينا في الثكنات، في السجون البعيدة وفي خلواتنا والسكون، نلمح الغزال، نلمحه وقد خطف ومضى.
في تلك الدقائق صوت حكيم لا نرى، صاحبَه، يقول:
هل فكرتم، انكم في الدائرة. الدائرة اغلقت عليكم.
وانتم عزّل. والاعزل يُقْتَل لا يقتل؟
ومع معقولية السؤال واقرارنا باننا مطوقون، وان خيط العون بالكاد يجتاز الثلج القاسي، واذا اجتاز فيصل بارداً، واننا نطعم المحابس والحكام قرابين!
لم يكن يعنينا الا الغزال، ومواصلة الركض وراء الغزال. والغزال يبعدُ وطول الطريق نتساقط ضحايا وصول. كنا قريبين من السحر، من الاسطورة، من صناعة الخرافة. نتشبث بانفسنا وبالريح والرموز التي تجيء من القلاع والكتب لنيل المراد الصعب، الذي لا يتوقف لنا ولا نحن نتركه ونعود. وكأن لم نشهد، لم نعلم ان العوالم تركت لغاتها الى التقنية وان التقنية مغسولة تماما من اثار الشعر. وهي وسيلة مُحكمة اكثر من الكلام.
افكر: امامي رحى حجرية ومحراث محترق، امامي كوم قصب يبس وزخرف قديم على طبق. فكم غلبتني الغفوة، كم فاتتني عوالم اذ سهوت؟ فليست نافعة بعدُ الحكايا المبطنة بالاسرار، وليس بالاقوال الواخزة وانحراف الكلمات يرتدع الخصوم. الخصم يُرسل مسلحين حَمَلَةَ بنادق سود، فنتراكض لننجوا وليس الّا النجدة التي تقعقع بعيدا ولا تصل.
فكيف بعد نوصل للعالم اصواتنا وقصصنا يبس الحزن والدم عليها؟ كيف نوصل مآسي معمرات ومحنةَ عيشٍ بين العوز والكراهة؟
اختفى الغزال وظل خطْفُ غيابه وبقينا في دائرة المحنة. بقيت آمالنا منكسرة وغياب الغزال.
فليس بعد الّا ان نشارك غيرنا في الشتات كوارثهم وانتصارات مُفاجئة يصنعونها. ليس غير ان نكسب لحقائقنا سند ونشترك مع ناس العالم، امثالنا في الحزن والوجع والمسعى. ومعاً لايقاف دمار العالم. فلم يعد الوقت وقت الغزال ولا مواسم الاشارات من بُعدْ. التدمير مباشر. ومعه، واكثر منه كل اشكال العنف القديمة، كأن الجديد المتطور لا يكفي.
القوة الشائهة الجديدة تسحق الجماجم والوصايا وما كان يردع ظل كلامَ سنين.
اسفاً، لا غزال. ونحن الان نقعد متعبين، عيوننا لفراغ الشاشات، لعل خبراً، لعل من يصيح: هو الغزال!










