TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > لا جواسيس أجانب في العراق!

لا جواسيس أجانب في العراق!

نشر في: 4 أغسطس, 2025: 12:03 ص

سهيل سامي نادر

زعم المحلل السياسي سرمد البياتي بوجود 35 دولة تتجسس على العراق. هذا ما سمعته في أحد البرامج، فتساءلت من أين لمحلل سياسي أن يعرف مثل هذا الرقم في قضايا غير متاحة للجميع؟ قال إنه سمع هذا في أحد المؤتمرات. من الغريب أن يردد ما سمعه بشكل علني دون تمحيص. أنا لا أريد تكذيبه، فهو شخص مهذب، أتأمله حين يتكلم، فهو يلقي كلماته كأنه في حالة تعب شديد ويريد التخلص منها, تعنيني صورته هذه ولا تعنيني تحليلاته.
لكن ما يثير الخلل في تصريحه حقا أنه لم يحدثنا عن صفة هذا المؤتمر، وهل هو مؤتمر أمني؟ حتى في مؤتمر أمني لا تقال الأشياء بهذا التحديد، كما لا أظن أن السيد سرمد يُدعى لمؤتمر مثل هذا. قد أكون مخطئا، بيد أنني قريب من الاستنتاج أن المؤتمر المقصود اقتصادي أو تجاري. إنه تخمين قائم على ما أعرفه عن العراق الذي بات لا ينتج شيئا غير النفط والكثير من التصريحات والضجيج والاشاعات التي تتخمّر وتصبح حقائق، هذا من غير الصفقات التي تبدأ من الطماطة إلى قضبان التسليح لعمارات راحت تسد الأفق وتولد إشاعة بوجود تنمية. حقيقة الأمر أن العراق سوق استهلاكي كبير من طراز رفيع، يتكاثر عليه الذباب الاقتصادي والتجاري والمشتغلون بالبورصة والباحثون عن الصفقات والدولار الرخيص المباع.
بسبب النقد المتكاثر على الأداء الحكومي وانتشار الفساد عدّت هذه الجهات التجارية على الجواسيس، في حين أرجح (من دون أن أحلف ولا أحيل إلى أي مصدر) أن هؤلاء ليسوا بحاجة إلى أن يكونوا جواسيس، بل هم باحثون عن صفقات تجارية ويقدمون أنفسهم لسياسيين وحكوميين عراقيين كمدراء عمل وأصحاب شركات وبنوك ومشاريع استثمار، وهمية أو غير وهمية او تتحول بايدي المسؤولين الى خرافة، ولعلهم من الصعاليك الباحثين عن الذهب عند صعاليك العراق الذين باتوا اولغارشيين بين ليلة وضحاها!
الحقيقة أن العراق مكشوف اقتصاديا وسياسيا بما لا يستدعي تكالب الجاسوسية عليه.. فعلى أي شيء يتجسسون؟ لا أسرار عندنا، ولعل ما يُعد أسراراً هي سياقات المعاملات الإدارية ذات التعقيد المفتعل وطرق الاحتيال وتغطية الفساد والفاسدين. وأظن أن الفاسدين العراقيين يمكن أن يشكلوا مدرسة في طرق التهريب والسرقات والنجاة من تبعاتها القانونية.. مدرسة لها أسرار تنافس أعظم أجهزة التجسس.
لا يمكن معرفة الجواسيس، كما لا يمكن التأكيد على وجودهم أو نفي وجودهم، لكن يمكن التعرف على آلاف الملفات المقفلة عن فاسدين ولصوص عراقيين يحتلون مواقع ممتازة في الدولة. هؤلاء وليس غيرهم مؤهلون أخلاقياً كبديل نوعي ووطني عن الجواسيس الأجانب. إن صيت وجود جواسيس في العراق يحتفظ بقوة الإشاعة والحقائق معا، نظراً لأن البلد محتل من قبل أميركا، وثمة نفوذ قوي للجار الشرقي. إن ازدواج الإشاعة والحقيقة يقوي اللامبالاة، ويدعم الإنكار، وبين الحين والحين يقدم إمكانية إثبات الوقائع المخزية والكشف عن فاسدين ومزورين بالاقتران مع أكباش محرقة. إن الصيت يتعزز بظهور نزعة استهلاكية هي الوجه الآخر لفشل التنمية وتوقف الإنتاج المحلي والرقم القياسي للفقراء والأيتام وحالات الطلاق مقابل عدد المولات والمطاعم والسيارات في بلد لا ينتج غير النفط والشعارات ورائحة الزفر!
أنا معني بالوجود والعدم، وبالموازنات الخلقية الكافية لتحويل الشخصية البشرية إلى إنسان. لا أعرف أي شيء عن الجاسوسية والجواسيس، واستغرب من أي شخص يعرف عنهما ويتصرف ببراءة، إلا إذا أراد أن يضفي على شخصه الأهمية ويظهر بمظهر رجل المعلومات الخطر!
ثمة مثال آخر مماثل لتصريح البياتي، قديم بعض الشيء، أطلقه سياسي ومسؤول في الدولة، إذ أشار من دون أن يرمش له جفن إلى عدد لا يصدق من الجهات الدولية التي تتجسس على العراق. كان ذلك عام 2011 والمسؤول هو الدكتور سلام الزوبعي نائب رئيس وزراء سابق وكان قد غادر موقعه.
قال الزوبعي في حوار مع الدكتور حميد عبد الله إن هناك 112 جهة مخابراتية أجنبية تعمل في العراق! أزعجني هذا الرقم المهول كما أزعج محاوره فعلّق مستغرباً: هذا يعني أنه حتى لزنجبار مخابرات في العراق!
زنجبار.. والصومال أيضا!
إنها مبالغة.. ومبالغة تحتاج الى توصيف أصلها ودلالاتها، فهي ناتجة عن ضعف الثقافة الوطنية وإطاراتها المنتجة وفقدان هيبة الدولة وسيطرة السياسة عليها من غير سيطرة الطوائف والعشائر والأساطير التاريخية. هذا ما أراه، كما أرى أن سلام الزوبعي استيقظت غريزته النقدية ما إن خسر موقعه الوظيفي المربح، ولقد مر في خاطري السؤال الآتي: كيف قبل الزوبعي أن يحتل موقعا متقدما في السلطة في بلد مخترق ونظامه أخرق بحيث تتجسس عليه 112 جهة أجنبية مرة واحدة؟
والحال أنا لا أصدق أي رقم في قضايا غامضة تجري في الخفاء وتعد من الأسرار. من يتحدث عنها بثقة العارف، ويأتي بأرقام، يستحق أن يوضع بمساءلة أمنية.
بيد إن هذين التصريحين مرا بهدوء دون اعتراض كأن التجسس على العراق بات مشروعا أمميا معروفا الى حد أن أرقامه معلنة. والحال لا أحد اعترض، لا مؤسسة أمنية طلبت استفسارا أو أقدمت على استدعاء ومساءلة. لقد مر الأمر كما تمر أي ثرثرة وكلام جرائد!
)استغرب من جديتي ههنا فأنا أعرف أن لا أحد من المسؤلين يهتم الا إذا داس أحدهم على قدمه. ما العمل؟ لا شيء غير أن ننقل ما يقال ونرفع رؤوسنا الى السماء لتعيننا على الصبر).
لاحظوا أن السيد سرمد محسوب على المحللين الذي يداور بهم الإعلام الرسمي وغير الرسمي، بحيث يتحولون بالتكرار إلى شخصيات عامة معروفة يتوقع حضورهم ومضمون أقوالهم إزاء أي تطور سياسي أو تصريح رسمي أو قرار حكومي أو انطلاق صاروخ تائه. إنهم موزعون في ترسيمة إعلامية تتكرر هي الأخرى، وكل ما يقال في حدودها يمر وينزلق مثل لعبة متفق عليها، وبسبب الاعتياد والتكرار يمكن تمرير الفكاهات والتفوهات والخواطر الشخصية من غير سوء الفهم المتولد من سوء النية. لا شيء خطر إذن. لكن الأمر يختلف إذا كان المتكلم نائبا لرئيس وزراء سابق وحامل شهادة دكتوراه، وسيختلف كثيرا لأن سلام الزوبعي لم يتحفنا بالرقم المخيف حسب بل وقدم لنا صورة مخيفة عن البلد أيضا، فالسياسة العراقية تقترب من أعمال التآمر، والسياسيون يقترفون أسوأ الأخطاء، ويتسلمون توجيهاتهم من التجار أو من القوى الخارجية. وأخيرا رمى الزوبعي بقنبلة من العيار الثقيل: موقع وزاري سيادي بيع بعشرة ملايين دولار!
المثير في الأمر أن الزوبعي صحّح لي الرقم الذي كان في ذهني وسمعته عن طريق التفاعل الشفاهي وهو 20 مليون وليس 10 ملايين! في تلك الأيام كان السيد المالكي رئيسا للوزراء (هو الآن في المستشفى حسب ما يقال وأدعو له بالشفاء) ولعله سمع تصريحات الزوبعي من التلفزيون مباشرة أو من تقرير أحد مستشاريه في مجلس الوزراء.. فماذا فعل؟ غلّس!
عفوا.. أقصد أنه لم يفعل شيئا، بالأحرى – وكما أرجّح - اتخذ موقفاً ستراتيجياً حكيماً كعادته، إذ احتفظ بأخطاء ومخالفات وجرائم وتصريحات شركائه في حكومة الشراكة الوطنية المتحاصصين في ملف سري، وصمت عليها صمت الأمين الصابرالمصطبر لكي لا يخدش خد الوحدة الوطنية المتورد!
لا تنتهي حكاية التجسس في العراق عند هذا الحد، فعندما ننقلب من صفحة التصريحات الى صفحة سياسية مضطربة، سنجد تسيدا لمصطلح أو تهمة (أولاد السفارة والسفارات)، الذي نعرف أنه بات نشطاً أيام الأزمات، ملصقاً على المتظاهرين المطالبين بحقوقهم السياسية والاجتماعية. إن تحويل مئات الآلاف من المتظاهرين الى عملاء تصبح أعداد الجهات التي تتجسس على العراق سهلة البلع. أعرف يساريا اتهم التشرينيين بأنهم أولاد السفارة الأميركية، وعندما جرى قتل المئات وجرح الآلاف منهم أوحى أن السفارة هي من فعلت ذلك لخلط الاوراق واتهام الحشد المعادي للامريكان!
هذا ما يمكن أن يقوله السيد عبد المهدي الذي كان يساريا أيام كان اليمين يعد عيباً ثقافياً وأخلاقياً!
ثم ظهر واضحا أن أولاد السفارات وجدوا بمئات الآلاف في لبنان أيام انتفاضتهم، ثم وجدوا بمئات الالاف في عقر ايران. لكن ها نحن نخرج من حدود العراق، فثمة من تكفل بمطاردة هؤلاء بعيدا عنا وبنفس التهمة.
أكاد أعرف المهم من نتائج تلك المطاردات، فهي لم ينتج عنها سوى موت مئات الشباب في حين ظلت أقدام السفارات لا تتزحزح.. وكل شيء جرى بعيدا عن إحصاءات نواب رئيس الوزراء والمحللين السياسيين واليسارين الذين يحصدون لذة الوطنية المترعة باليمين الديني المسكِر لمجرد أنهم لفظياً ضد الاميركان وأولاد سفارتهم!
والآن بعد هذا السرد المتعب هل لدى القراء فكرة عن أرقام الجواسيس وجهات التجسس على العراق المولود عام 2003؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. كاظم مصطفى

    منذ 4 شهور

    ليس لي الاان احي ما سردته وشكرا الا انني متخوف ان ايشار لحضرتكم من انكم رئيس عصابة الجواسيس في السفاره الامريكيه !!!!

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram