د. فالح الحمـراني
بغض النظر عما إذا كان السيد مقتدى الصدر سيشارك في الانتخابات البرلمانية العراقية لعام 2025 أم لا، فإن إجراء هذه الانتخابات وقائمة المشاركين فيها يُمثلان حدثًا مهمًا في السياسة العراقية، قد يؤثر على الديناميكيات المحلية والإقليمية*. وقد يؤدي هذا الوضع، لا سيما بالنسبة للجماعات السياسية الشيعية الاخرى، إلى الانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة قد تشتد فيها المنافسة. برز التيار الصدري في انتخابات 2018 2021، كأكبر كتلة برلمانية في العراق، مما أبرز ثقله السياسي. لذا، يُمثل إحياء التيار حدثًا حاسمًا قد يدفع الأطراف الاخرى إلى إعادة النظر في استراتيجياتها الانتخابية وخططها لتشكيل الحكومة القادمة.
وإذا عاد السيد الصدر إلى الساحة السياسية، فمن المتوقع أن يسعى الفاعلون السياسيون الشيعة العراقيون، مثل نوري المالكي، زعيم ائتلاف دولة القانون، وهادي العامري، زعيم منظمة بدر، إلى موقع جديد يُوازن نفوذ الصدر. ومن المرجح أن تتنوع هذه الجهود، ليس فقط من خلال المنافسة السياسية، بل أيضًا من خلال وسائل الإعلام والحملات الانتخابية والائتلافات. وبالمثل، قد تحتاج كتلة صادقون، الجناح السياسي لعصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي، إلى تحديد موقف استراتيجي تجاه السيد مقتدى الصدر، لأن هذا الكيان، الذي انفصل عن التيار الصدري، أصبح من أشد منتقدي الصدر منذ الانقسام. ولكن ليس من المتوقع أن يقتصر هذا التموضع الاستراتيجي على محور الصراع أو الإقصاء، لأن انخراط التيار الصدري في السياسة، بالنسبة لجماعات مثل عصائب أهل الحق، سينشأ علاقات متوترة، ولكن مستقرة. ومن الممكن أيضًا أن تُدرج هذه الهياكل، في ظل ظروف معينة، خيارات التعاون أو التحالف مع الصدر ضمن أجندتها. وعلى وجه الخصوص، قد يُنظر إلى الدعم الشعبي الواسع للصدر وخطابه الوطني على أنهما يُمثلان تحديًا وعامل توازن لإيران. لهذا السبب، من المرجح أن تتبنى الجماعات المدعومة من إيران استراتيجية موازنة من خلال دمجه في النظام على مستوى ما، بدلًا من إقصائه تمامًا. ويتماشى هذا النهج أيضًا مع أهداف إيران في الحفاظ على نفوذها في العراق ومنع أي زعزعة استقرار قد تنشأ ضدها.
وقد تصبح الولايات المتحدة مشكلة أخرى في حال مشاركة السيد الصدر في الانتخابات. فقد تلجأ واشنطن الى انتهاج سياسة تقوم على توسيع قاعدة القوى اللاعبة البديلة من اجل تقليص النفوذ السياسي الإيراني في العراق. وفي هذا السياق، إذا خرج الصدر من الانتخابات قويًا وركز من جديد على جهود تشكيل حكومة أغلبية، فمن المحتمل أن تتبنى الولايات المتحدة مقاربة تدعم هذه العملية. وستنظر السياسة الامريكية بارتياح الى سيناريو تشكيل تحالف تستبعد منه القوى التي تراها موالية لإيران. ولكن، يجب الأخذ في الاعتبار أن علاقات الصدر مع الولايات المتحدة غير مستقرة. فرغم موقف السيد الصدر المميز تجاه ايران إلا على البيت الأبيض يأخذ بالاعتبار خطابه المناهض لأمريكا، ولهذا السبب فان الموقف من ايران لن يحدد وحده العلاقات بين الولايات المتحدة والسيد الصدر، فبالإضافة الى ذلك سيجري تقييم الاستراتيجيات السياسية الداخلية للسيد الصدر وخطوات إعادة بناء نظام الدولة وتوجهاته في السياسة الخارجية. لذلك، إذا شارك الصدر في انتخابات عام ٢٠٢٥، فمن المحتمل أن يتخذ التنافس الإيراني الأمريكي في العراق، ليس فقط، أشكالًا جديدة، بل سيشهد أيضًا تحولاتٍ في التوازن بين الأحزاب السياسية العراقية. وستعتمد درجة فعالية السيد الصدر على كيف سيتشكل موقفه السياسي وما هي الجهات الفاعلة التي سيُقيم علاقاتٍ معها. ومن المحتمل ان تعد القوى السياسية المقربة من إيران والولايات المتحدة في هذه العملية مقاربات موزونة تأخذ بالحسبان الصدر لا اقصائه تمامًا.
وبالتالي يبرز السيد مقتدى الصدر كأحد اقوى الأطراف المؤثرة في السياسية التي لا يمكن التنبؤ بتحركاتها منذ 2003.. ومثل الصدر، مارست حركته نفوذًا واسعًا في مجالات متعددة، بدءًا من قرار المشاركة في الانتخابات ووصولًا إلى التحالفات واستراتيجيات التعبئة الاجتماعية. ويرتبط هذا ارتباطًا مباشرًا بكونه لم يعد سياسيًا فحسب، بل غدى رمزًا دينيًا واجتماعيًا أيضًا. وتجعل هذه الهوية متعددة الطبقات السيد الصدر ينجذب أحيانًا إلى مركز النظام، وأحيانًا أخرى تسمح له بالانسحاب تمامًا وخروجه من النظام.
ومع اقتراب انتخابات عام 2025، يتصاعد الجدل حول عودة السيد الصدر المحتملة إلى الساحة السياسية. وتُمهّد الطريق لهذه العودة الدعوات إلى إعادة هيكلة التيار الصدري تحت اسم الحركة الوطنية الشيعية، وتقديم إلتماس إلى مفوضية الانتخابات، وتحديث قوائم الناخبين. لكن عودة الصدر إلى الساحة السياسية ليست مجرد البدء من جديد، بل ديناميكية ناجمة عن تفاعل عدد من العوامل، بما في ذلك الاختلالات الهيكلية للنظام، والمنافسة الشيعية الداخلية، والتغييرات في النظام الانتخابي.
وبالنسبة للصدر، فإن قرار الترشح ليس مجرد مسألة إرادة سياسية، بل هو أيضًا مسألة حسابات استراتيجية. وقد تُصعّب التغييرات في النظام الانتخابي تكرار إنجازاته السابقة. وعلى وجه الخصوص، قد تُؤدي العودة إلى نظام سانت لاغا إلى محو الأفضلية في المقاعد التي حصل عليها في انتخابات عام 2021 على حساب المناطق ذات المقاعد المحدودة. لهذا السبب، قد يختار الصدر البقاء على هامش الانتخابات في سيناريو لا يزال فيه التمثيل العددي الذي سيحصل عليه في مجلس النواب وإمكانية ترجمته إلى قدرة على تشكيل حكومة غير واضحين. كما أن نهج الصدر الحذر يجعل من الصعب إقصاؤه تمامًا من النظام.
ينظر الى أي سيناريو يمكن الجماعات الشيعية التي يشاع انها مدعومة من إيران من زيادة نفوذها السياسي، على أنه تهديد للمعسكر الصدري. لذلك، يزداد دافع التيار ليكون ثقله على وزن هذه الجهات الفاعلة عن طريق العودة إلى السياسة. وفي هذا السياق، لن تكون انتخابات 2025 مجرد سباق سياسي، بل قد تصبح أيضًا عتبة حاسمة لمستقبل السياسة الشيعية، وشمولية النظام، وشرعية التمثيل السياسي في العراق.
ولا يستبعد أن يستأنف التيار الصدري، في حال عودته إلى الساحة السياسة، محاولاته لتشكيل حكومة أغلبية في الفترة المقبلة. وقد يزيد هذا الوضع من احتمالية تشكيل تحالفات جديدة قائمة على دعم شعبي أوسع، تستثني الجماعات التي يشاع انها مقربة من إيران. وإذا قرر الصدر البقاء خارج النظام مجددًا، فإن مسألة كيفية ملء هذا الفراغ ستصبح إحدى القضايا الرئيسية التي ستؤثر بشكل مباشر على استقرار وشرعية السياسة العراقية.
وفي حال استمرار المقاطعة، رغم مؤشرات الانعطاف، فمن المحتمل أن يعد التيار الصدري صيغة أخرى للمشاركة في الانتخابات عن طريق دعم مرشحين في قوائم مختلفة أو مرشحين مستقلين لم يرشحهم التيار مباشرة. إن التيار الصدري، ذو الخبرة السياسية في استحداث ما يشبه البدائل، قادر على الاستمرار في تشكيل السياسات من خلال تحركاته غير المتوقعة. وبالتالي، بالنسبة للتيار الصدري، فإن وسائل توجيه السياسة لا تقتصر على المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها. على الرغم من أن التيار الصدري شكّل تحركاته وفقًا لنهج استراتيجي خلال فترة الانتخابات، إلا أنه يمكن القول إنه سيظل لاعبًا في الخارج لا يمكن التنبؤ بتحركاته القادمة.
*عرض لدراسة موسعة تناولت دور السيد مقتدى الصدر في السياسة العراقية نشرها معهد الشرق الأوسط.










