ألكس فون تُنزيلمان*
ترجمة: لطفية الدليمي
سمعنا الكثير عن أهمية القصص والاساطير الوطنية في السنوات الأخيرة. فقد تردد في وسائل الاعلام البريطانية أنّ حملة "صوّتوا للخروج Vote Leave" فازت في استفتاء بريكست Brexit لأنّها قدّمت قصّة أفضل من حملة البقاء، كذلك قيل أنّ دونالد ترامب فاز في الإنتخابات الأمريكية عام ٢٠١٦ لأنّه قدّم قصة أفضل ممّا فعلت هيلاري كلينتون، وخسر في عام ٢٠٢٠ لأنّ قصته تهاوت في مقابل قصّة خصومه الديمقراطيين. يعتقد البعض أنّ حزب العمال (البريطاني) واجه صعوبة في تغيير مسار الأمور بشكل حاسم ضد حكومة فاسدة وفوضوية لأنّه لا يمتلك قصّة واضحة ومتماسكة ليرويها لجمهوره.
لطالما كانت القصص ذات أهمية جوهرية في تنظيم المجتمعات منذ نشأتها. وكما كتبت نسرين مالك(1) Nesrine Malik في مجموعتها الثرية من المقالات والمعنونة "نحتاج قصصًا جديدة We Need New Stories": "كلُّ وحدة إجتماعية، من الأسرة إلى الدولة القومية، تعمل على أساس الأساطير، وهي قصص تميزها عن غيرها". يمكن للقصص الوطنية أن تدعم أي وجهة نظر: يسارية كانت أم يمينية، ليبرالية أم استبدادية. إنّها جزءٌ لا يتجزأ من القومية وتمثلُ شكلاً من أشكال سياسات الهوية Identity Politics. وفي الوقت الذي نشهدُ فيه أنّ الكثيرين من مختلف الأطياف السياسية يكرهون القومية وسياسات الهوية، فإنّ هذا لن ينفي حقيقة أنّ العالم يتشكّلُ في معظمه من دول قومية، وما لم يتغير هذا الوضع فستظلُّ تلك الدول جزءًا من هويتنا، وسيكون الأمر سواءً لو قبلنا قيمها السائدة أم رفضناها. الحقيقة السائدة اليوم هي أنّ السياسيين من جميع الأطياف يتجاهلون قوة القصص الوطنية ويتغافلونها عن قصد ولأسباب متباينة.
قد تشمل القصص الوطنية العلوم والفنون والدين، وهي متجذّرة في التاريخ و تروي قصةً فريدةً عن كيفية تشكّل أمة. تتّسم هذه القصص دائمًا بالإستثنائية Exceptionalism؛ إذ توحي بأن "أمّتنا" مختلفةٌ عن غيرها (بل متفوقة عليها عادةً)، وتهدف هذه القصص إلى الإستبعاد Exclusion بقدر ما تهدف إلى التوحيد Unification.
في بريطانيا مثلًا، جرت محاولات عديدة لبناء أساطير وطنية من تاريخ معقد ومتشابك. لم تزلْ رواية "قصّةُ جزيرتنا Our Island Story" للكاتبة إتش. إي. مارشالH. E. Marshall، التي نُشرَت لأول مرة عام 1905، تلقى استشهادًا كثيرًا بها حتى اليوم؛ ففي عام 2010 وصفها رئيس الوزراء آنذاك ديفيد كاميرون بأنّها كتابُ طفولته المفضل. أكّدت مارشال أنّ (قصّة جزيرتنا) "ليست درسًا في التاريخ بل هي كتاب قصص"، ونصحت قراءها الصغار قائلةً: "أتمنى ألّا تضعوا هذا الكتاب بجانب كتبكم المدرسية، بل على الرف، بجانب (روبنسون كروزو) و(جغرافيا سفينة نوح)". سواءٌ كانت هذه النصيحة فعّالة أم لا، فقد استوعب الكثيرون تصويرها لصعودٍ استثنائي نحو العظمة (البريطانيّة).
القصص الوطنية ليست ثابتة وكأنّها منحوتة في الحجر. في الواقع، يُمكن أن تكشف مقارنةُ نسخٍ مختلفة كُتِبَتْ على مرّ عقودٍ أو قرونٍ عن تحوّلاتٍ درامية جذرية في شكل وطبيعة ومفهوم القصص الوطنية. في عام ١٧٤٦، هزم دوق كمبرلاند، وهو إبنُ جورج الثاني، ثوار اليعاقبة التابعين للأمير بوني تشارلي في موقعة كولودن. أمر دوق كمبرلاند بعدم إبداء أي شفقةٍ للناجين من اليعاقبة؛ فكان من الطبيعي أن تنتهي تلك الموقعة بمذبحة مروّعة. في أعقاب انتصاره الدموي مباشرةً، أُشيد بدوق كمبرلاند باعتباره "إلهًا بطلًا Hero-God" في إنكلترا (وفي معظم أنحاء أراضي اسكتلندا المنخفضة). حصل تصويرُ دوق كمبرلاند كرمزٍ للحرية البريطانية التقدّمية في مواجهة الإستبداد الرجعي والخرافي لعائلة ستيوارت الكاثوليكية. في الوقت ذاته تمّ تصويرُ سكان المرتفعات واليعاقبة الذين حاربوه، على حدّ تعبير المؤرخ موراي بيتوك Murray Pittuck، "كمتوحشين يتوجّبُ ترويضهم". كتب الموسيقار اللامع هاندل مقطوعته الموسيقية (الأوراتوريو) الشهيرة "انظروا، البطل الفاتح قادم!" تكريمًا لإنتصار الدوق كمبرلاند.
بعد قرن من الزمان تغيّر كل شيء!!. كانت الملكة فكتوريا آنذاك على العرش: كانت تعشق اسكتلندا، وسكان المرتفعات تحديدًا. أصبحت حقيقة واقعة كولودن الدموية معروفة الآن. لم يَعُدْ عمّ الملكة فكتوريا الأكبر، دوق كمبرلاند، يُنظر إليه على أنه "الشاب الإلهي" الذي تغنّت ببطولته موسيقى هاندل الرائعة؛ بل صار يوصفُ بأنّه"جزّار كولودن": وحش، شرير، ومصدر إحراج للبريطانيين.
تغيرّت الرواية الوطنية بالتبعية لكي تكون قادرة على التعامل مع القصّة الوطنية التي اعيد تشكيلُها: أُزيل تمثال دوق كمبرلاند في لندن عام 1868، ويُعتَقَدُ أنّ الملكة فِكتوريا نفسها أمرت بمحو كلمة "كولودن" من مسلّته التذكارية الواقعة في حديقة وندسور الكبرى. في عام 1856 زعم كتاب تاريخي شائع عنوانُهُ "التاريخ الشامل لإنكلترا The Comprehensive History of England" أنّ دوق كمبرلاند "خلّف في اسكتلندا إسم الجزّار، وأنّ شعب إنكلترا، الذي ملأه النفور من القسوة أسرع من أي شعب آخر، خلع لقب البطولة على الطرف المضاد لدوق كمبرلاند في موقعة كولودن". استمرّت هذه القصة في كونها قصة وطنية استثنائية بريطانية وإنكليزية معًا، إلى جانب كونها تعبيرًا عن الحداثة والوحدة البريطانية. الفرق يكمن في التالي: في عام 1746، تجلّت هذه القيم بإحتفاء الشعب الإنكليزي بدوق كمبرلاند؛ بينما مع حلول عام ١٨٥٦ تجلّت القيم ذاتها برفض البريطانيين له.
ننتهي من هذه الواقعة إلى أنّ القصص الوطنية قد تكونُ متجذّرة في التاريخ؛ إلا أنّها ليست تاريخًا. وكما قال المؤرخ ريتشارد إيفانز Richard Evans: "التاريخ ليس تخصصًا لصناعة الأساطير، بل هو تخصّصٌ لتفنيدها". إن عملية البحث التاريخي تتحدّى القصص الوطنية حتمًا؛ ولذلك غالبًا ما يُنظَرُ إليها على أنّها تهديدٌ من قِبل مؤيديها.
القصص الوطنية دعاية، وحكايات خرافية، وقصص عن أصل الأبطال الخارقين. من المفترض أن توحّد، وتُقْصي، من خلال الإيمان المجرّد بها فحسب. وكما هو الحال مع جميع أشكال الإيمان، سيدافع المؤمنون الحقيقيون عنها بقوّة. في المجتمعات القمعية، غالبًا ما يسود هذا الدفاع عن الإيمان على البحث والتحليل التاريخي. المجتمعات الأكثر استرخاءً مع نفسها تكون في العموم أقل قلقًا بشأن ظهور الحقيقة كيفما كانت.
من الممكن سردُ قصصٍ وطنية رصينة ومنضبطة- تلك التي تتحدث عن قيم ليبرالية مشتركة، وديمقراطية، وإنجازات فنية وعلمية، وتنوّع في الآراء أو الهويات. في جوهرها لا تزال القصص الوطنية المنضبطة محض خيال، وسيفخر من يروونها بالتعقيد الفريد لقصصهم الوطنية الناضجة مقارنةً بأوهام الآخرين السخيفة؛ ممّا يعزز نموذج الإستثنائية الوطنية ببراعة من جديد.
لعلّ أحدهم يجد يومًا ما قصة أكثر إقناعًا ليرويها تتجاوز الحدود القومية، وحينها ستفقد القصص الوطنية تأثيرها علينا. في الوقت الحالي، القصص الوطنية تعيشُ معنا، سواءٌ شعرنا بأننا "في حاجة" إليها أم لا. ما دام هذا صحيحًا فمن الأهمّية القصوى إدراكُ أنّ الأحكام المسبقة الكامنة فيها لا تزول أبدًا. كلُّ جيلٍ يتساءل ويتساءل عما يُروى له: يتوجّبُ على القصص أن تتكيف مع الظروف المستجدّة (ولا تتّخذ شكلًا واحدًا قد تبدو معه سخيفة وغير معقولة، المترجمة). قد تُحبط الشعبية الدائمة للأساطير المؤرّخين؛ لكن يمكنُنا في الأقلّ أن نلتمس العزاء لأنفسنا بأنّ هذه الأساطير في حالة تغير دائم. إنها علامةٌ من علامات الصحّة أن تكون مجتمعاتُنا منفتحة على التغيير؛ هذا إذا لم نتّفق كليًّا على أهمية القصص الوطنية في مجتمعات اليوم.
1. نسرين مالك: صحفية وكاتبة سودانية المولد ومقيمة في لندن. أكملت دراستها العليا في جامعة لندن. مؤلفة كتاب "نحتاج قصصًا جديدة". تكتب في صحيفة (غارديان) البريطانية على نحو منتظم، وتشارك في حلقة نقاش في برنامج (Dateline London) على بي بي سي. (المترجمة)
* ألكس فون تُنزيلمان Alex von Tunzelmann: مؤرخ وكاتب سيناريو، ومؤلف كتب منها الكتاب المنشور عام 2021 بعنوان: الأصنام الساقطة: إثنا عشر صرحًا صنعت التاريخ Fallen Idols: Twelve Statues That Made History
عن الغارديان
اثر القصص والاساطير الوطنية في المجتمع

نشر في: 6 أغسطس, 2025: 12:02 ص









