عصام الياسري
ها هي جريدة "المدى" تطفئ شمعتها الثانية والعشرين، لا لتخبو، بل لتزداد إرادة وتألقا في سماء الصحافة الحرة والمسؤولة عقدان وأكثر مرت، لكنها لم تكن أعوام عابرة في تقويم الأيام، بل كانت محطات وعي، ومنابر كلمة، ونبض حر في جسد العراق المتعب.
في زمن يتنازع فيه الإعلام بين التزييف والانحياز، وقفت "المدى" شامخة كمنارة فكر، لا تنحني إلا لصدق الكلمة، ولا تخضع إلا لحقيقة الموقف. فهي لم تكن يوما صحيفة تنقل الأخبار فحسب، بل كانت مرآة لوجدان الناس، ومنبر للقضية، وجسرا بين الثقافة والسياسة، بين الفكر والواقع، بين الحلم والإرادة.
لقد استحقت المدى أن تكمل هذا المسير، لا بوصفها صحيفة فقط، بل ك "وعي جماعي مكتوب"، تتجاوز الحبر والورق، لتخاطب العقل، وتستفز الأسئلة، وتزرع النور في العتمة. وسر هذا النجاح ليس لغزا؛ إنه في روح الفريق، في قلم رئيس تحريرها الذي لم يكتب إلا عن قناعة، ولا صاغ رؤاه إلا برؤية وطنية، وفي عيون المحررين الذين رأوا ما وراء الحدث، وفي إبداع الفنانين والمصممين الذين يرسمون ملامح الغد، وفي أيد تقنية صاغت الحرف بمهارة، لتصل الكلمة إلى القارئ بكل وضوح واحتراف.
"المدى" ليست عنوانا في أرشيف، بل حكاية مستمرة تروى كل صباح، تقرؤها العيون وتستبطنها العقول. قراؤها لم يأتوا صدفة، بل انجذبوا إلى مصداقيتها، إلى عمقها، إلى حسها الإنساني الذي لا يساوم.
منذ انطلاقتها، لم تتوان المدى عن تعقب الأوضاع العراقية بكل ما فيها من تعقيد ووجع، من صراعات سياسية إلى اختناقات اقتصادية، من تراجعات في المشهد الثقافي إلى هواجس المجتمع المتراكمة وقفت في قلب العاصفة، لا تلاحق الحدث لمجرد السبق، بل لتحلل وتفكك وتضيء الزوايا التي يتعمد البعض إغفالها. كانت الصحيفة، وستظل، عين مفتوحة على الوطن، وأذنا صاغية لهموم شعبه، ولسان ناطق بحقيقته.
لقد أدركت المدى، ومنذ بداياتها، أن مهمتها ليست محصورة في الداخل فحسب، بل تمتد لتكون جسرا بين العراق والعالم؛ لتسمع الصوت العراقي المهمش للمجتمعين العربي والدولي، ولتضع قضاياه في سياقها الإنساني والثقافي والسياسي العادل. في وقت تتناثر فيه صورة العراق بين شظايا الدعاية والتضليل، جاءت "المدى" لتعيد رسم ملامحه بهدوء العقل، وحرارة الانتماء، وصدق التعبير.
هي صحيفة تقرأ الواقع من جذوره، ولا تكتفي بالسطح، تتابع الأزمات لا لتجملها، بل لتكشفها وتطرح البدائل. تنير الرأي العام العراقي لا بالتلقين، بل بالتحليل والانفتاح والعمق، لتصنع من القارئ شريكا واعيا، لا متلقيا سلبيا. ومن خلال ذلك، استطاعت أن تبني جمهورا يشبهها: قارئ متسائل، ناقدا، وفاعلا.
الفضل في كل هذا، لا يعود إلى الاسم وحده، بل إلى من حملوه على أكتافهم: رئيس تحرير يؤمن بأن الصحافة موقف، لا مهنة فقط، وطاقم من المحررين والفنانين والتقنيين الذين حولوا الكلمة والصورة والتقنية إلى سلاح تنوير، لا ترف إعلامي.
في نهاية عامها الثاني والعشرين، تقف جريدة "المدى" في لحظة تأمل واعتزاز، لا بما مضى فحسب، بل بما أثبتته من جدارة واستحقاق وهي تواصل مسيرتها الإعلامية بمسؤولية قل نظيرها. اثنان وعشرون عاما لم تكن مجرد أرقام في رزنامة الصحافة، بل كانت فصولا من الشهادة الحية، والمواقف الجريئة، والعمل الدؤوب في زمن تتكاثر فيه الأزمات وتشتد فيه العتمة.
اليوم، وهي تدشن عامها الثالثة والعشرين، تدخل مرحلة جديدة من النضج والتأثير، محملة بثقة قرائها، وبإرثها الذي صنعته كلمة كلمة، وعدد بعد عدد. تدخل عام جديد لا لتركن إلى أمجادها، بل لتوسع مساحتها في الوعي الجمعي، وتثبت أن الصحافة حين تكون حرة وواعية ومسؤولة، تتحول إلى ضمير وطن ووجدان أمة وثقافاتها المتنوعة، لا مجرد مطبوعة تركن إلى المجد القديم، بل لتجدد العهد: على أن تظل منبرا للمسؤولية، وراية للجدارة، وساحة يتلاقى فيها الفكر الحر مع الضمير الحي.










