ياسين طه حافظ
لا ادعو لتمجيد ماضٍ على حاضر ولا يشغلني حاضر عن مستقبل. فأنا حيثما كنت اتطلع لما يأتي عبر زمني، وزمننا دائما ليس محطة واحدة للوقوف ولكن بوابة، او بدايات تستمر.
وفي كل ظرف يظل ما نعمله هو من اجل العالم، وما يجعل العالم يتحرك اليه ليكون اكثر امانا وعلما. وتبقى سلامة وازدهار المستقبل هو ما تعمل البشرية من اجله.
نحن لهذا يعز علينا ان يضيع امتياز وان نخسر فضيلة او مدَّخَر نافع يسد بعض الفقر ويزيد غنى المتوافر. يهمني ما يعين الجمال على الحضور والامتياز على التفوق.
وقد اشرت اكثر من مرة الى: الّا تشغلنا العابرات عن الامور الاهم، عن الاسس الباقيات. نعم نعمل ولعملنا حوافزه واسبابه. لكنه ليس دائما الاهم، هو ليس ما يمكن التاسيس عليه ولا هو الاحق بالعناية وما يجب.
تكررت في كتاباتي الصحفية الاشارة الى ان فرط الاهتمام بالموضوعات المتداولة افقدها نسغها وايبسها.فما عادت مهمة ولا عادت مثيرة، وظلت شاغلة التجمعات يلوكون بها فهي الحاضرة على الالسن، ما بين الادباء ومن يشاركونهم الجلسة او الملتقى.
واذا كنا نغفر لمن لا يملك شاغلا ثقافيا، فكريا او فنيا، فنحن ننبّه، باشارة محبة لا تخلو من اسف، الى ان موضوعات مثل "قصيدة النثر"، "التفعيلة" و"العمود"، و " الغزل" مفرطا ببساطته وتلف محتواه و الهجاء الاجتماعي اللاجدوى منه حين العيوب والتخلف في البلد كله، صارت هذه لكثرتها وملازمتها لاعمارنا ومعرفة القاصي والداني بها، بلا معنى بل كريهة مملة لكثرة ما قيل فيها ولكثرة ما رأينا منها ونرى.
لا نريد ان ينشغل الادب والادباء والثقافة والمثقفين وملتقيات الناس بما سوف تجرفه الريح و تحولات الازمنة. اتركوا هذا للصحافة اليومية. السوء بانواعه واضح ويصفع اذواق الناس ومشاعرهم في الشارع والمعهد والدائرة وحيث نعمل وحيث نكون.وهل يجدي كلام بحذر بينما السنة الناس تطلق الادانات والاتهامات عاليا علناً والمدانون واتباعهم يسمعون، فيبتسمون ويعودون لارقام حساباتهم؟ اذن لا جدوى، والتاثير إن وجد فالخبز والريح اقوى منه، دقائق وكأن لم يكن.
فلماذا بعد نفسد كتاباتنا الادبية، نؤذي الفن والمعنى بما مللنا ومل الناس منه ومما قيل فيه وكتب فيه حدَّ صار غثّاً وكريها سماعهُ؟ وما يفعل سطر او بضعة اسطر في قصيدة امام ستراتيج سوء وتخلف؟ وما تجدي خطبة عصماء او تمثيل بطولة في زماننا المزدحم فضائيات وفي بلداننا حيث العيوب مرئية، عارية وبشعة مألوفة حتى صارت بعضا من حياة الناس؟ لنحتفظ بالفن نظيفا ولا نخسر الادب او لنكتب عما فينا وحولنا وعن المأساة الانسانية باسى رفيع، وباستياء المتحضرين من بشاعات التخلف ومن الجهل الذي يتحكم بالمصائر. ولننقل رداءات حياتنا وسوئها عبر الالة والزمن الى العالم. لتكن هذه موضوع درس نقدمه ادبا وفنا ناضجين الى الدنيا ليروا كم متضررة هذه البلدان وكم تعيسة حياة الشعوب، حياتنا، لعل انصارا شرفاء مثل اولئك الذين ناصروا ثورة او حركة العبيد التي شهدها النصف الاول من القرن التاسع عشر ونال السود بعدها حقوقهم الانسانية والوطنية.
لا يشغلنا هذا عن القسم الاول من كلامي، والذي ابتعدت، او ابعدتني الضرورات عنه، وهو:
انشغالنا بما هو عابر مكرر ومملول منه، لا المهم الذي يرفعنا ويعطينا صفة فخرٍ في العصر. ولنأخذ من بصرة العراق الباصرة مثلا:
ان مدينة عريقة في اهتمامها الثقافي، كالبصرة، كانت مركزا لسانيا، اي مركزا لعلوم اللغة او اللسانيات بتعبير اليوم، ولها اتجاه باسمها وفلسفة، هي " مدرسة البصرة" في نحو اللغة. واسماءٌ فيها ومنها معروفة، من الباحثين المجتهدين، بما نسميه اليوم بالاسلوبية وفقه اللغة وعلوم الدلالة والتفسير. ومن لم يكن من اولئك العلماء بصريا، فقد درس على ايدي علماء البصرة واخذ عنهم.
افيُعقَل ان ينشغل خَلَفهم النابه الجديد بمسائل، هي اصلا ليست مسائل، كقصيدة النثر؟ اكتب نظما او نثرا او اكتبهما معا، ما المانع؟ واي قوة تتحكم في خيارك غير ثقافتك؟ ليكن لك ابداعك في التعبير. هذه مسألة أُثيرت لا في القرن التاسع عشر؟ كما يقولون ولكن في القرن السابع عشر، وهناك من دعى لها وسوغها وكتب شعرا فيها، بل انجز عملا مهما معروفا أتُخذ مثلا. هذا موضوع يقرره اختيارك وذائقتك وثقافتك، لا يقرره تجمّع او مؤتمر او مقهى، ولا قانون. المهم هو مستوى ما تكتبه وكم هو جديد وكم نافع وكم جميل.
ايضا، لا تلتقف تعبيرا مثل"الهايكو"، وهو ياباني من القرن الثاني عشر وتبدأ بالانشغال به والكتابه بما يماثله وانت تسعى للحداثة! اي حداثة في الرجوع الى وراء اكثر من عشرة قرون؟ مسكين انت، ظننتهُ جديدا واردت تكون مع الجديد والحداثة! هذا فقر ثقافي. وراء الحداثة ثقافة حديثة وفكر حديث وافاق فنية حديثة ومزاج حضاري حديث. ظنوا الهايكو حديثا فتراكضوا! اسفا لا يلتقي الابداع والفقر الثقافي ولا مع المحاكاة الساذجة والتقليد. المحاكاة غير الاصالة. مهمة المبدع ان يضيف ويطور.
واذ وصلنا لهذا الحد، بقي ان نصارح الاصدقاء في البصرة، وسواها، وهو هذا بيت القصيد، وما اردت ان اقول:
مفترض مؤملٌ من البصرة، وهي اول مركزٍ لساني عربي يمتلك فلسفة ومنهجاً واتجاها فكريا وتطبيقات في الممارسة والدرس، ان تكون البصرة اليوم اسما "لسانيا" يُزدهى به ويُفتخَر. ان تكون مركزا لسانيا حديثا وان يكون الاهتمام والاحتفاء بالدراسات اللغوية الحديثة تأليفا وترجمة، وان تُدرَس النتاجات الادبية لمبدعيها ولسواهم على وفق المعطيات اللسانية، على وفق تحليل وتفكيك علوم اللغة الحديثة. بضوء الدراسات اللسانية اليوم ليُكتَشفَ الفن الضائع والامتيازات الاسلوبة لكتاب الادب ولا تظل رهن ما قسمَ لها الزمن الفقير ومحدود الافق من دراسات، هي مقالات ان لم تكن انطباعية الحصيلة، فهي انشاء ومناسبات ثناء. كلها لا تعطي الكتابات "الابداعية" والنصوص المتميزة حقها. فلا متابعة للامتياز الاسلوبي ولاجتهادات الكتّاب والاضافات الذكية الخاصة.
كُتّاب البصرة المتقدمون ليسوا كَتَبَةَ نصوصٍ حسب، هم مثقفون بعملهم مجتهدون. فلا يضِع الاجتهاد الخاص في خضم الاحكام العامة والكلام المألوف. كلٌ من اولئك البارعين، يشعر بان عديد الدراسات عنه اغفلت المهم الخفي في كتابته! الدراسات اللسانية الحديثة تكشف مكونات العبارة وامتياز تركيبها. هي تقدر حيوية المفردة وانتماءها التاريخي وواقعيتها الجديدة واتجاهها الدلالي. الدراسات اللغوية الحديثة تمنح النص اسساً ومرتكزات علمية ولا يظل رهن اللفظية والانطباع. الدراسات اللغوية الحديثة تُشعر الكاتب المجيد بان جهده الخاص صار امام تبصّر وفهم للبنية المستحدثة والدلالة الجديدة او الابعد، فلن يشعر بعد ان احترافيته وذكاءه وثقافته مرت ولم ينتبه لها احد. لقد تكشّف الان للناقد الحديث وللقارئ جمالُ النص وفردانيته ومُنحَ معاصرةً واسسا جديدة. هكذا لا تعود الدراسات سائبة. صارت محكومة بفهم يستند لعلم فلا يضيّع النصَّ بعد المرونةُ العاطفية وفيضُ الكلمات..
كم مفرحٌ، وكم هو الفخر ان نرى البصرة مركزا لسانيا حديثا تصدر منها كتب في علوم اللغة وبحوث ونرى حماسات لدراسات اللغة بين اهل الادب والثقافة فيها. وان نرى كشوفات في اللسانيات الحديثة بدلا من اضاعة الجهد واضاعة الذكاء والوقت في موضوعات مكررةٍ لا تُجدي.










