متابعة/ المدى
يواجه آلاف العاملين في أجواء مفتوحة في العراق تحدياً كبيراً خلال أشهر الصيف التي تشهد درجات حرارة مرتفعة تلامس 50 مئوية. وفي مقابل هذا الخطر الصامت الذي يتسبب بوفيات في بعض المدن، تزداد المبادرات الإنسانية لأرباب المهن من أجل حماية من يعملون معهم من الحرارة العالية التي قد تؤدي إلى الموت. وتغيّرت في كل محافظات العراق جداول الورش وإيقاع المهمات اليومية لمن يعملون في فضاءات مفتوحة، ويبذلون جهداً بدنياً كبيراً في مهن مثل البناء.
وقال مهدي أبو كرار خلال إشرافه على ورشة ترميم منزل قديم في حي الكاظمية، شمالي بغداد: "لا أستطيع أن أطلب من إنسان أن يحمل كيس إسمنت تحت شمس الظهيرة، لأنني أعتقد أن هذا الأمر جريمة. أعمل منذ 30 عاماً في البناء، وأصبحت الشمس أكثر قسوة في السنوات الأخيرة، وبات العمال يعانون من إرهاق شديد، لذا قررت قبل أعوام أن أغيّر توقيت الدوام". وأوضح أبو كرار أن موعد العمل يبدأ من الساعة الرابعة أو الخامسة عصراً، وينتهي عند منتصف الليل، وقال: "حين يبدأ العمل عند العصر تكون الشمس قد هدأت قليلاً، وأصبح الجو ملائماً للعمل".
واعتمد كثيرون من أرباب العمل أوقاتاً مغايرة لتجنيب العمال مخاطر ارتفاع درجات الحرارة.
وقال هادي البنا: "شهدت خلال عملي في البناء حالات إعياء عدد كبير من العمال بسبب الإجهاد البدني تحت أشعة الشمس، وتوفي صديق لي بسبب ضربة شمس عام 1999، لذا لا أستطيع أن أطلب من إنسان أن يعمل تحت أشعة الشمس في الصيف، وأوفر للعمال أماكن محمية ومظللة. وفي حال عدم إمكان توفير ذلك في مواقع معينة أغيّر موعد العمل، ولا أهتم بالعمل خمس أو ست ساعات، أي أقل من عدد الساعات المقررة وهي ثماني ساعات، بل بسلامة أفراد فريقي الذين أوفر لهم أيضاً مشروبات تتضمن فيتامينات وكل أدوات الحماية، وأرسلهم إلى مراكز صحية. يعتقد الناس أن العمل البدني مجرد بذل جهد أكبر، لكنه فعلياً عمل خطر قد يصل إلى الموت أحياناً. وأتحمل مسؤولية كل من يعمل معي".
وتحدث عمار الجيزاني، وهو صاحب ورشة حدادة، عن تجربته في تنظيم العمل وسط اللهب، وقال: "أقسّم ورشة العمل الخارجية إلى ثلاث نوبات في أوقات أقل حرارة. أنجز أعمال تركيب هياكل حديدية وسقوف كبيرة يجب أن تنفذ في مواعيد محددة حتى لو في الصيف وسط حرارة قاتلة". وتابع: "لأنني لا أقبل المجازفة بصحة أي فرد في فريقي، قسمت الورشة إلى ثلاث نوبات، إذ يعمل فريق من الفجر حتى قبل الظهر، وآخر من بعد العصر حتى منتصف الليل، وثالث يفضل العمل من منتصف الليل حتى الفجر، وأترك الخيار للعامل بحسب صحته وقدرته على التحمل".
وأكد الجيزاني أنه وفّر لعماله كل ما يساعدهم في الحفاظ على حياتهم من قبعات خاصة وقفازات ومراوح متنقلة وثلاجة مياه تتضمن عصائر طبيعية وأكياس أملاح تعويضية، لكنه لم يُخفِ مواجهته عقبات، "ففي بعض الأحيان نضطر إلى العمل داخل أحياء سكنية حيث لا يُسمح بالضوضاء بعد العاشرة مساءً، لذا نعمل بدءاً من الفجر ونتوقف ظهراً، ونضحي ببعض الساعات حرصاً على الناس وفريقنا أيضاً".
وفي ظل الحاجة الماسة لعدد كبير من العراقيين للعمل وسط ظروف صعبة في ظل ارتفاع معدلات درجات الحرارة خلال الصيف، يحاولون تجنّب الإصابة بضربة شمس أو جفاف أو إعياء، وحالات تتسبب بها درجات الحرارة العالية.
وقال مصطفى الصباغ (52 عاماً)، الذي يعمل لحسابه في الدهان،: "أسرتي كبيرة ولدي التزامات مالية. وفي مجال عملي لا يتوفر عمل يومي، لذا لا أستطيع رفض عرض عمل حتى لو اضطررت للتعرض لأشعة شمس حارقة في الصيف. بالطبع لا أريد أن أُصاب بدوار أو أفقد وعيي مقابل لقمة العيش، لكن يجب أن أعمل في أي ظرف"، ولفت إلى أن آخر عمل نفذه كان طلاء واجهة مبنى من ثلاثة طوابق، حيث صنع لنفسه ظلاً من قطعة قماش للاحتماء من أشعة الشمس.
ولا يختلف الأمر مع قصي رشيد (36 عاماً)، الذي يعمل في تركيب ديكورات داخل مواقع مغطاة مثل بيوت ومبانٍ، لكنه يفضل العمل في أوقات مبكرة أو في المساء.
وقال: "يستهلك العمل في الصيف جهداً وطاقة أكبر بكثير من أوقات أخرى، وأبحث دائماً عن تقليل الجهد لي ولمن يعملون معي. ورغم ذلك أوفر داخل ورش العمل على حسابي الخاص مكيفات هواء ومراوح مع مولد كهربائي لتشغيلها".










