TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مؤسَّسة (المــدى) اِثنان وعشرون عامًا من بناء الإنسان والمجتمع

مؤسَّسة (المــدى) اِثنان وعشرون عامًا من بناء الإنسان والمجتمع

نشر في: 12 أغسطس, 2025: 12:02 ص

محمَّد حسين الرفاعي

[I]
في كل اِحتفاء بمؤسِّسةٍ ثقافيَّةٍ، علينا، منذ البدء، أن نشرع بالتساؤل عن صناعة الثقافة والفعل الثقافي كي نفهم، على نحو عميق وجذري: ما تعنيه الثقافة، وماهيَّتها وأوليَّتها وضرورتها؟ وما تضفيه في صيرورة المجتمعات والأفراد فيها. وبأية معانٍ يمكنها أن ترشدنا، اِرشادَ العُقلاء، إلى التعرُّف، من جديد، على ما نتوفر عليه من إمكانات ذاتية، في كلِّ مرة؟ وإنها مناسبة جديرة بأن نشير، منذ أوَّل بدءٍ، إلى أنَّهُ ينبغي علينا أن نتوقف عند أسباب تجاهل الثقافة وجعلها في المراتب الثَّانية أو الثَّالثة من قِبَلِ السياسيِّين، في بلدنا، ورجال السلطة الذين، في الغالبية الساحقة منهم، لا يعرفون معنى الثقافة؛ ولا هم يعون، أن بتجاهلهم لها، يمكنهم أن يتسبَّبوا في أضرار تاريخية عميقة، قد تُصبِح بنيوية، تلحق الأجيال القادمة.
لقد فاز "فخري كريم"، بشخصية العامّ الإعلامية في قمة الإعلام العربيّ في دورته الرَّابعة والعشرين. وفازت مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون، بدبي، في أيار 2025. وبذلك، قد فاز العراق. وقد اِحتفلنا وفرحنا، فرحةَ الذَّات المجتمعيَّة بذلك، واِحتفائِها بذاتِ نفسها العميقة.
أخذتني في وقتها، التطورات السياسية والعسكرية والأمنية، الخطيرة، في بلد إقامتي لبنان؛ وقد فكَّرت طويلاً وعميقًا بأن أكتب هذا الفوز تهنئةً واِحتفاءً وتكريمًا- واِعترافًا بجميله على الوطن- على نحو سريع، كما هو حال كل شيء تقريبًا، في عصر السايبر والذكاء الاِصطناعي؛ ولم أفعل. لأنَّ لحظاتٍ تاريخيَّةً، مفصليَّةً في هُويَّة البلدان، وتراثها الأصيل، وذاتها المجتمعيَّة العميقة، تتطلَّب صبرًا وتروِّيًا من ذاك النوع الذي يسحب التَّساؤل والتفكير والفهم، التي من شأن اللَّحظة، إلى أقصى مستويات التَّساؤل عن الذَّات المجتمعيَّة؛ ذاك النوع من التفكير الذي يلازم عمل الفلاسفة والمفكرين والعلماء في ورشهم الخاصَّة، وذاك الضرب من الخطاب الذي يميِّزُ عملَهم عن أعمال الآخرين. وباِعتبار أنَّ ذا إنَّما هو فاتحٌ للحظة مجتمعيَّة- ثقافية جديدة، في الأوطان العربيَّة بعامَّةٍ، وفي وطننا العراق بخاصَّةٍ؛ علينا أن نترك كل ضرب من ضروب التفكير السريع، ضروب الحسابات المجتمعيَّة والشخصية والربحية. لأنَّ ذا يرتبط بجذرِنا التاريخي، وحضورنا الأصيل في تاريخ المجتمعات العربيَّة.
ولكن، علينا أن نتساءَلَ: لماذا علينا أن نحتفي بمؤسسة المدى، بعد مرور إثنين وعشرين عامًا من بناء الإنسان والمجتمع، وتحديث الثقافة وتجديد الفكر، في البلدان العربيَّة؟ ولماذا علينا أن نتوقف، في معنى راقٍ شريف، عند مؤسسة المدى ورئيس مجلس إدارتها الأستاذ، الجليل بأعماله، "فخري كريم"، الكريم بسلوكه وأخلاقه ونتاجه؟
[II]
لقد كُتب من قِبَلِ الزملاء الكرام، الأخوة والأصدقاء الأعزاء، كثيرًا وطويلاً عن تجربتهم الشخصية مع "أبي نبيل". كما وقد رُفعت إليه، اِحتفاءً، جملة من الأوراق والكلمات والمقالات- العميقة والقوية، في تهنئة تليق به وبالمدى- التي تناولت شخصه ونضاله وفعله التاريخي في القضايا التي أخذها على عاتقه، ويأخذها على الدوام؛ والمبادئ التي آمن بها، ويؤمن بها دائمًا؛ والإشكاليَّات المجتمعيَّة التي اِضطلع بالتساؤل عنها، والنضال في سبيلها، ولا ينفكُّ عنها إلى الآن.
ما أريد أن أضعه، أمام الفكر العربيّ، مؤسساتٍ وقُرَّاءً وباحثينَ ورجالَ الدَّولة، والمؤسسات العربيَّة، هو شيءٌ آخر؛ هو ضرب من التفكير بمفهوم المؤسِّسة، وبـ "فخري كريم"- وأمثاله القِلَّةِ- بوصفه مؤسِّسًا. إنَّ ذا، إنَّما هو الأكثر أهمية الذي يهم الأجيال القادمة بعامَّةٍ، ويلعب دورًا كبيرًا وضروريَّاً في بناء المجتمع والإنسان، وبالتالي الدولة، من جهةٍ، وفي الوقت ذاته، هو يفتح أفق فهمٍ جديد لإمكاناتنا المجتمعيَّة والإنسانية، في المجتمعات العربيَّة، للتحديث والتجديد عند مستويات المعرفة، فكريَّاً وثقافيَّاً، من جهةٍ أخرى. ولأنَّ بعضَ الاِحتفاء هو اِحتفاءٌ بذاتِ أنفسنا العميقة، بالذات المجتمعيَّة التي من شأننا، التي تتجسَّدُ، في كل مرَّة، على نحو الوطن والوطنية والمواطنية والإنسانية والمشترك الإنساني الشريف، فإنَّ أي ضرب من الاِحتفاء هو رافعة جديدة للتفكير بذات أنفسنا العميقة.
[III]
تستمد المؤسِّسة- من جهة كونها تأسيسًا- معناها من الوظيفة التي تؤديها، ومن المنتجات الفكريَّة والثقافية بخاصَّةٍ، والمعرفيَّة، بعامَّةٍ، التي تعيد تشكيل الواقع، على نحو الحقيقة، على نحو أخصّ. كما يمكننا أن نفهم المؤسِّسةَ من جهةِ كونها أساسًا يستند إليه الأفراد والجماعات للتعرف إلى هويتهم وذواتهم، وبالتالي إلى وجودِهم في العالَم، وكينونتِهم في واقع بعينه. إنَّ المؤسِّسةَ بعامَّةٍ إنَّما هي التأسيس بعامَّةٍ. وأنْ نؤسِّسَ هو أن نكونَ ملتزمينَ بجملة مبادئ وأهداف، ومُلزَمينَ بوسائل بعينها لبلوغ تلك الأهداف.
ولكن، ما معنى أن نؤسِّسَ في واقع مليء بالإشكالات والإشكاليات المجتمعيَّة، والثقافية، والاِقتصادية، والسياسية؟ وعلى أي نحو يستمد، شيءٌ من قبيل التأسيس، أهميته وضرورته ومعنى قيامه؟ وهكذا، لماذا علينا أن نحتفي بكل تأسيس، من جهة كونه أساسًا، من هذا النوع؟
ترتبط المجتمعات وتُعيَّن، في كل الأحايين، على نحو ما تفعله وتنتجه من أعمال وإنجازات ثقافية. بقدر ما تنتج المجتمعات ثقافة، بقدر ما هي تعلن عن نفسها بوصفها قد خرجت، أو هي تحاول الخروج، من الأشكال البدائيَّة- الطبيعيَّة للمجتمع البشري. إنَّ المجتمعات، بالثَّقافة، تخرج من كونها مجتمعات في الطبيعة، وبالطبيعة، وللطبيعة، ومن الطبيعة. إنَّها بالفعل الثقافي، ذاك النوع من الإنتاج والخلق والصُّنع، تميِّزُ نفسها على أنَّ الإنسان فيها إنَّما هو ذاتٌ فاعلةٌ، تسعى جاهدةً، لتشكيل العالَم المجتمعيّ على نحو جديد. لأنَّ الفعل الثقافي يخلق إنسانًا مُنتِجًا- صانعًا، عاملاً في تطوير الواقع، خالقًا لواقع جديد؛ فيما الفعل الطبيعي لا يصنع غير إنسانٍ مستهلك. بَيْدَ أنَّ ماهيَّة المجتمعات تنتهي بالاِستهلاك؛ وتنسحب إلى الظلمة.
[IV]
أن نحتفي بالتأسيس- بوصفه اِحتفاءً بالأنوار التي تفتح أمامنا درب الفعل والفكر، فتُنقذنا من الظلام، ولا اِنقاذَ من الظلام من دون الوعي بالمسؤولية إزاء المجتمع والإنسان- بوصفه أساسًا هو أن نقترب قدر الإمكان للاِحتفاء بذات أنفسنا العميقة، من جهة أنَّنا نتوفر على إمكانات إنقاذ أنفسنا من الظلام. بذلك، ومن خلال الاِلتفات له، نحن نشير إلى الاِحتفاء بحضورنا التاريخي. وأن نحضر في التاريخ هو أن نفعل- ولكن، أيضًا، أن نتنوَّر- في تواشج بنيوي أصيل مع العالَم، كلَّ ما يهيِّئُ الإنسان والمجتمعات، وبالتالي الدَّول، كي تُصبِح في تكامل مع العالَميَّة. إنَّ الفعل الثقافي تأسيسيٌّ لأنه عالَميٌّ؛ أو لا يكون. إنَّ ضربًا من ضروب التكامل مع العالَميَّة إنَّما هو ذاك النوع من الأفعال الثقافية، التي تعيِّنُ الخارج المجتمعيّ، وتوجِّهُهُ نحو إمكانات عالَميَّة تخصُّنا، اِنطلاقًا من ذاتِ أنفسنا العميقة. إنَّ التكامل مع العالَميَّة، على نحو ثقافي يتضمَّنُ الاِضطلاع بإشكالات العالَم، وإشكالياته، والاِنغماس في التَّساؤل عن مشاكله؛ لا الاِنسحاب من العالَم بذريعة الاِختلاف عنه. إنَّه الدفع بأقصى إمكاناتنا المجتمعيَّة في أن نكون عالَميِّين؛ ولا ثَمَّةَ شروط إمكان موضوعيَّة، لأنْ نكون خارج العالَميَّة؛ لأنَّ ضروب الاِنغماس في العالَم، إنَّما هي ضروب الوجود الجديد في العالَم؛ أو لا نكون. وفي هذا المضمار يبقى اِختلافنا في العالَم، لا عنه، ويصبح تعددنا في العالَم، لا على الضدِّ منه، فيغدو تنوُّعُنا في العالَم، لا عَقَبَةً في وجه قِوام العالَميَّة فينا.
[V]
بناء على ذلك، يُصبح الاِحتفاء بذات أنفسنا العميقة، في ضروب حضورنا في التاريخ والعالَم، ضربًا من الاِحتفاء بحضورنا في تأسيس الجديد. وكل تأسيس، في عالَم الخراب المجتمعيّ، بعد دولة الاِستقلال، إنَّما هو جديد، هو إضافة، على هذا النحو أو ذاك. إنَّ تأسيسًا ثقافيَّاً يعني اِستئنافًا لعمل المجتمع في بناءِ علاقات جديدة، من شأنه، مع العالَم. وإنَّ ذلك يبدأ من العمل على بناء إنسان جديد في الوطن، ومجتمع جديد من أجل الدولة، ودولة جديدة من أجل علاقات أخرى، تكاملية وتفاعلية، مع الوسط الاِقليمي، والعالَمي. كل ذا، في إطار المساعي الجادة لتأسيس الفعل الثقافي الجديد، يفتح إمكان بناء الفعل الاِقتصادي الجديد، والفعل السياسي الخلاَّق. إنَّ حضورنا في التاريخ يُحتفى به، متى أصبحَ مُنجِزًا. ولا يُنجز الحضور إلاَّ متى كان في وطنه، حضورًا أصليَّاً في قلب الأزمة: أزمة الإنسان، والمجتمعات المأزومة، والدول التي تعاني من أزمات تتطلَّب حلولاً؛ بتلك الجهود التي تقترح حلولاً. لا تؤسس المؤسِّسة، ولا يؤسِّسُ المؤسِّسُ، للجديد الثقافي بعامَّةٍ، إلاَّ متى فتح إمكانات جديد لـ [العلاقة- مع- العالَم]. إنَّه شرف التأسيس في أن يكون فعلاً قائمًا برأسه.
[VI]
تشتمل [العلاقة- مع- العالَم]، على نحو جديد، التورُّط بالإشكالات والإشكاليات التي من شأن مفاهيم العالَميَّة. مفاهيم من قبيل الديموقراطية، والحُرِّيَّة، والمساواة، والعدالة، والمواطنيَّة، والدَّولة القائمة على التعدُّد الثقافي، والاِختلاف الفكري- الآيديولوجي، والتنوع المجتمعيّ- الإثني، والسعي لتوفير الأرضيَّة الوجودية، في مجتمعاتنا العربيَّة لذلك. إنَّ تورُّطًا من هذا النوع بالعمل على بناء أرضيَّة هذه المفاهيم، وممارستها في مجتمعاتنا العربيَّة، لهو الفعل الثقافي الأصليّ الذي يُسهم، في كلِّ مرَّةٍ ومن جديد، في التعرُّف إلى ذاتِ أنفسنا العميقة في علاقتنا بالعالَم. وبكلمات مباشرةً: أن نكون عالَميِّين هو أن نكون ذات أنفسنا العميقة، ضمن المواطنية العالَميَّة، القائمة بالأساس على معاني التعدُّد والاِختلاف والتنوع.
إنَّ تأسيس [العلاقة- مع- العالَم] لهو تأسيس لمنظار جديد في النظر إلى الحقيقة، وتناولها، والإعلان عنها، وفتح إمكان جديد في الواقع ومحاولات إصلاحه أو تغييره. إنَّما هو يتمثَّل ببناء منهج جديد يفهم الدولة اِنطلاقًا من العالَميَّة على أنها مؤسسة مجتمعيَّة قائمة على ما يريده المجتمع؛ لا أنْ يُؤسَّسَ المجتمعُ على أساس ما تريده السلطة منه. إنَّ علاقة مع العالَم لا تبدأ بفهم الواقع على نحو واقعاني، متضمِّنًا وعيًا علميَّاً- فلسفيَّاً حديثًا بالواقع، لا يمكن أن تكون حجز الأساس في بناء أي إمكان من إمكانات التكامل مع العالَميَّة. إنَّ كل عمل تاريخي يُصنَّف كبيرًا ومميَّزًا، في تاريخ الشعوب والمجتمعات، متى كان قائمًا على أربعة، مُحَدَّدًا من خلالها: إنَّها رُباعيَّةُ الخير العامّ، والحقيقة، وبناء الإنسان والمجتمع، والمحبَّة. ولكنَّ أيضًا، الاِهتمامَ بالمستقبل؛ والنظر إلى الشباب على أنَّه ممكناتُ المستقبل الآتية إلينا، لا محالة. لأنَّ كل من يتجرَّأ على تجاهل الشباب، كما فعل جيل كامل من رجال السلطة، سيجد نفسه، كما وقد حصل ذلك، أمام واقعةِ الشباب، ووقوعه عليه.
[VII]
تكمنُ أهميَّةُ مثل هذه المناسبات في أنها تفتح لنا، في كلِّ الأحايين، إمكانات جديدة في التفكير بالحدث، في عصر بات يُحدِّدُه غيابُ التفكير، وحَجْــبُه، على نحو مؤسَّسيٍّ مُمنهَج. إنَّ غيابَ التفكير، بفعل الحاجة الماسة للسرعة في التنفيذ، والإتيان بما هو جاهز ومُعدٌّ سلفًا، إزاء علاقتنا بالأشياء في العالَم، من جهة، وإنَّ حجب التفكير، من جهةٍ أخرى، من خلال التراكم المعرفيّ الكبير، الذي تُؤسِّسُ له أدوات الذكاء الاِصطناعي وآلياته، وتقنياته وتطبيقاته، يجعلنا في غربة أصيلة عن منبت ماهيَّــتِنا. ولكنَّ علينا، في الوهلة الأولى، من اللقاء البَعْديِّ Posteriori بالعالَم، بعد الوعي بتلك الغربة، وضروبها؛ ألاَّ نتَّخذ أي موقف إزاءَه. إنَّه، ببساطة، يتطلَّب فسحَ المجال أمامه، والسماح له، من دون أي فعل إراديٍّ، لأنْ يكون كما عليه أن يكون؛ أو حتَّى كما يريد أن يكون. وإنَّ ضربًا من اِعتدال الرُّوح، يغدو، [بَعْدَ- حينٍ]، ومن الخارج، ضرورةً أخلاقية وإنسانية.
إنَّ غيابًا وحجبًا، يخصَّان التفكير، إنَّما هما ميكانيزمات تغييب الإنسان وحجبه عن [أن- يكون] كما كان عليه أن يكون. ولكن ذلك يصطدم بقابلية الإنسان على التفاعل، والتكامل. إنَّه يتفاعل مع ضروب الجِدَّة التي من شأن العصر الجديد، بقدر ما هو يتكامل مع مصادر المعرفة الجديدة، التي كان قد أنتجها، وصَنَعها، وخَلَقها؛ وها هي، في لحظة واحدة، يمكن أن تحدث أمامه؛ أن تظهر، وأن تقع، وأن تكون. إنَّ الحدثَ، في كل ضرب من اِنسحاب الإنسان إزاء مثل هذه المناسبات، هو الوقوع فيها. والعبور من أمام التفكير بها، على نحو أصليّ، من دون الاِلتفات إلى أنَّ فيها تكمن المعاني التي من شأن المجتمع، والتاريخ والتراث والهُويَّة التي من شأنه.
إنَّ في ماهيَّة مناسبات الاِحتفاء بالتأسيس، والمؤسِّس للفكر والفعل الثقافيَّيْن، تكمن إمكانيَّةُ تغييب التفكير، وحجبه عن الاِضطلاع بموضوعه الأصليّ؛ أي فتح آفاق جديدة لبناء الإنسان والمجتمع، وبالتالي الدَّولة. وكي نجعل من مثل هذه المناسبات، حدثًا في الواقع المجتمعيّ، وأن نتعرف إلى هذا الأخير، عَبرَ ما وضعه التأسيس فيه، علينا أن نسحب المناسبة إلى مستوى الأزمة. أي أزمة غياب التفكير بالمناسبة، وحجب التفكير عَبرَ المناسبة.
[VIII]
لا تتضمَّنُ الأزمة أي معنى سلبي؛ إلاَّ متى كان المرء مأخوذًا بنماذج الوعي القديمة، التي تُحدِّد له معايير تعرُّفه إلى العالَم. إنَّه الخوف من الجديد، والقلق إزاء المجهوليَّة لدى الإنسان. إنَّ الأزمة تشير إلى إخفاق التصوُّرات والاِفتراضات والأفكار والمفاهيم، السائدة في المجتمع، والسيِّدة على الفهم؛ في تقديم أي شيء قادر على تفسير الأحداث والوقائع والظواهر. تدفعنا الأزمةُ إلى التَّساؤل عن اِهتراء القديم، وعدم اِستجابته لما هو يقع في الواقع، والتاريخ، والهُويَّة، والمجتمع. إنَّ الأزمةَ فاتحةٌ لإمكانات التساؤل جديدة؛ أي أن نتساءَل مرَّةً أخرى عمَّا يمكن أن تفعلَه المؤسِّسةُ في الواقع المجتمعيّ، في الـ [ههنا- و- الآن]. فما الذي تفعله المؤسِّسةُ في الواقع المجتمعيّ، في بِنيَة الثقافة، والحقول التي توفِّر إمكانات الوجود المجتمعيّ فيها؟ ولماذا علينا، عَبرَ فهم جذريٍّ، للتأسيس الأصليّ، أن نحتفي به، ونكشف عمَّا يتركه في الواقع الماديّ المحسوس؟
[IX]
أن نحتفي بتأسيس الفعل الثقافي الجديد شيء يشيع بيننا نسيان أصل الاِحتفاء، وأن ننغمس في الاِحتفاء والاِحتفال شيء آخر يقذفنا في وادٍ سحيق من الفرح غير الواعي بذاته، وأن نفكِّرَ بالاِحتفاء بتأسيس الجديد شيء آخر مختلف يضعنا أمام تحدٍّ دافعٍ نحو ترك عادة نسيان التفكير، والوعي بحجبه. إنَّنا لم نرمِ التأمل بالاِحتفاء إلاَّ لأنه يدعونا للنَّظَرِ إلى ذاتِ أنفسنا العميقة، من خلال ما يجب أن تكون عليه. إنَّ ما يجب أن تكون عليه، وما ينبغي أن ننغمس في العالَم من أجله، إنَّما هو الوطن. وطن يشتمل على كل المُكَوِّنات المختلفة والمتعدِّدَةِ والمتنوِّعةِ التي من شأن الذَّات المجتمعيَّة الكُلِّيَّة التي تخصُّنا.
فإنَّ التفكير بذاتِ أنفسنا، والاِنغماس في العالَم، على نحو اِستحضار التَّساؤل الجذري الذي من شأن التفكير، أي تساؤل الإقامة في العالَم، يفتحان أمامنا أفقًا جديدًا للثبات في الوطن. لأنَّ التفكير، بعمق كينونتنا، يجعل من المفاهيم والأفكار الناتجة عنه دروبًا للفكر وقد جعل من العالَم بأسره وطنًا له.
هذا بالضبط يدفعنا للاِحتفاء بمؤسِّسَةِ المدى، وبالمؤسِّس "فخري كريم"؛ وأن نحتفي بهما يعني أن نحتفي بإدارة السيدة الفاضلة، المدير العامّ لمؤسسة المدى "د. غادة العاملي". لأنَّ كل ما تفعله المؤسِّسةُ، برأسها ويديها وروحها، إنَّما هو الدفع بأقصى إمكانات التَّساؤل عن مجتمعنا وإنساننا، والتفكير بما أنتجته المؤسِّسَةُ وعيَّــنَتْهُ في الواقع المجتمعيّ- الإنساني، أو تسعى لذلك، في الوطن- وقد صار العالَم بأسره وطنًا بفعل ذا الفكر- الذي من شأننا على نحو أخصٍّ، وفي الأوطان العربيَّة بخاصَّةٍ، وفي عالَم الثقافة العالَميَّة بعامَّة. إنَّه اِحتفاءٌ بنا، وقد أصبحنا ذواتًا فاعلةً في الأوطان، في العالَميَّة الجديدة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram