TOP

جريدة المدى > خاص بالمدى > الحرف البغدادية في العهد العثماني.. شرف المهنة قبل المال وتراث يواجه الإندثار

الحرف البغدادية في العهد العثماني.. شرف المهنة قبل المال وتراث يواجه الإندثار

نشر في: 13 أغسطس, 2025: 12:02 ص

خاص/ المدى
في قلب بغداد العثمانية، وبين أسواقها التي لطالما ضجّت بأصوات الحرفيين والمشترين، كانت الحرف والمهن التقليدية تمثّل أكثر من مجرد وسيلة للرزق.
كانت تلك الصنائع تُمارس كشرفٍ مهنيّ، ومنظومة أخلاقية تُحدِّد مكانة الفرد داخل المجتمع، وتُدار عبر نظام دقيق يربط "الصانع" بـ"الأسطى" وبـ"شيخ الكار".
"الشرف ما كان بالفلوس، كان بالإتقان"، هكذا يستهلّ الحاج سلمان الدليمي (72 عامًا)، حديثه وهو يتذكّر أيام عمله في سوق الصفّارين ببغداد، حيث كان يُطرق النحاس بإيقاع يشبه الموشحات البغدادية. ويضيف: "ما كنا نبيع قطعة، كنا نبيع اسمنا، واسم الحرفة كلها".
في تلك الأيام، كان الحرفي يبدأ كمساعد أو "صانع"، يتعلّم تحت يد "أسطى" خبير. لم يكن ذلك مجرد تدريب مهني، بل كان تدريبًا على الأخلاق والانضباط. يقول الحاج سلمان: "الأسطى مكانته مثل الأب، نخاف نزعلّه أكثر من أهلنا. أي خطأ في الشغل أو غش كان يعني طرد من السوق".
وبعد سنوات من الممارسة، يصبح الصانع "أسطى"، بعد اجتياز اختبارات عملية وأخلاقية، بإشراف "شيخ الكار"؛ الشخصية الأعلى في سلم الحرفة. الشيخ لم يكن موظفًا رسميًا، بل كبير الأسطوات، وصاحب الكلمة العليا.
يؤكد الباحث في التراث الشعبي، مهند الراوي لـ(المدى)، أن: "أسواق بغداد خلال العهد العثماني كانت منضبطة بنظام مهني متكامل، يُشبه النقابات، لكن بروح اجتماعية تحكمها الأخلاق قبل القانون".
لم تكن الحرف مجرد مهارات، بل كانت نسيجًا اجتماعيًا. وكان الانتقال إلى "أسطى" لحظة فخر يُحتفل بها في السوق. يقول الأسطى تحسين القيسي، النجار القديم: "لما صرت أسطى، جبت ذبيحتين وقرينا الفاتحة، وعزمت أهل السوق.. كانت فرحة ما توصف".
لكن مع بداية القرن العشرين، بدأت هذه المنظومة تتراجع. دخول الاستعمار البريطاني، وتطور الآلات، وتراجع الاهتمام الرسمي، كلها عوامل أثرت سلبًا على الحرف اليدوية.
الأسطى كاظم الشويلي (63 عامًا)، بنّاء متخصص في الزخارف البغدادية، يقول بأسى لـ(المدى): "كنا نزيّن البيوت بمقرنصات تراثية، تنقش بإيدينا. اليوم، الناس تريد ديكورات جاهزة بلا روح".
ويضيف لـ(المدى): "أمانة بغداد ساكتة، ولا أكو دعم. صار أغلب ربعنا قاعدين بالبيت، ما عدهم شغل".
في زاوية أخرى من المهن القديمة، يعمل الحاج طلال الحسيني (66 عامًا) في "ريافة الألبسة"، وهي مهنة تعيد القماش الممزق إلى حالته الأصلية. يقول لـ(المدى): "كان الناس يجيبون السجاد والملابس ويثقون بشغلنا. الآن، الكل يرمي بدل ما يصلّح، والمسؤولين ناسيينا".
ويتابع: "بلدان العالم تداري تراثها، تحمي شغل الأجداد.. وإحنا ما عدنا غير الحكي".
من جهة أخرى، لا تزال بعض المهن تصارع للبقاء. عبد الرضا الكعبي، أحد صُنّاع الخوص، يقول لـ(المدى): "نصنع كلشي من سعف النخيل: كراسي، أقفاص، مراوح. المهنة توارثناها من آبائنا، بس السعف صار تعب، والنخلة تعاني".
ويكمل: "ماكو دعم، ولا حتى سؤال. أولادي ما يريدون يكملون المهنة، يشوفون تعب بلا مردود".
من جهته، يفسّر الخبير الاقتصادي علاء الدباس هذا التراجع بقوله: "المنتج المحلي يواجه منافسة قاسية من المستورد، والحكومة ما عدها خطة واضحة لدعم المهن القديمة. نحتاج أسواق تراثية رسمية، وتسهيلات حقيقية للحرفيين".
ويضيف لـ(المدى): "هذه الحرف لو رجعت للحياة، ممكن تقلل البطالة وتنعش السياحة وتُعيد هويتنا".
ورغم كل شيء، ما زالت ذاكرة بغداد تحتفظ بأسماء "الأسطوات" وأهازيج الأسواق القديمة، وصدى الطرق على النحاس والخشب والقماش. إرثٌ لا يزال حيًا في وجدان المدينة، يهمس بأن الحرفة كانت شرفًا، والسوق كان حياة، والعمل اليدوي كان مزيجًا من الإبداع والإيمان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

مقالات ذات صلة

لا حسم في

لا حسم في "الإطار": الملف البرتقالي يخرج بلا مرشحين ولا إشارات للدخان الأبيض

بغداد/ تميم الحسن أصبح "الإطار التنسيقي" يبطئ خطواته في مسار تشكيل الحكومة المقبلة، بانتظار ما يوصف بـ"الضوء الأخضر" من واشنطن، وفق بعض التقديرات. وفي المقابل، بدأت أسماء المرشحين للمنصب الأهم في البلاد تخرج من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram