TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > "تعلم الجهل"وجذوره في الجامعات العراقية

"تعلم الجهل"وجذوره في الجامعات العراقية

نشر في: 20 أغسطس, 2025: 12:01 ص

يوسف حمه صالح مصطفى *

يمثل "تعلم الجهل" (Learning Ignorance) ظاهرة معرفية وسلوكية ذات أبعاد نفسية وثقافية، تعكس عمليات منهجية أو غير منهجية تؤدي إلى اكتساب أنماط تفكير وسلوك تعيق الوصول إلى المعرفة أو توظفها بشكل مضلل. تتجسد هذه الظاهرة حينما يتشرّب الفرد أو الجماعة ممارسات وأفكاراً تقودهم، عن قصد أو غير قصد، إلى الحفاظ على حالة الجهل أو تعزيزها، رغم توافر فرص التعلم والمعرفة.
يتعامل علم النفس مع التعلم عادة باعتباره عملية لاكتساب المعرفة والمهارات والقيم، لكن الظاهرة العكسية – أي التعلم من أجل البقاء في حالة جهل – نادراً ما تحظى بالاهتمام الأكاديمي. "تعلم الجهل" ليس غياب التعلم، بل هو تعلم سلبي؛ حيث يكتسب الفرد أو الجماعة منظومات فكرية وسلوكية تمنع أو تشوه التعلّم الصحيح. هذه الظاهرة يمكن أن تكون مقصودة (نتيجة لسياسات أو مناهج مضللة) أو غير مقصودة (نتيجة لعوامل ثقافية أو اجتماعية أو نفسية) في كلتا الحالتين دفع الناس في تصديق الخرافات و الأفكار البالية غير المجدية أو تعلم أمور تنافي الواقع و الحقيقة.
فالجهل كظاهرة سايكولوجية من منظور علم النفس المعرفي، ليس مجرد نقص في المعلومات، بل حالة ذهنية يمكن أن تكون نشطة؛ إذ يقوم الفرد بانتقاء أو تفسير المعلومات بطريقة تخدم استمرارية الجهل، حيث الكثير من العوامل كالتحيزات الشخصية و الايديولوجية والمذهبية و التفكير الرغبوي و ضيق الافق المعرفي و السذاجة و قصر النظر الميتامعرفي...
و من منظور علم النفس الاجتماعي، يمكن أن يكون الجهل نتاجاً للتنشئة الاجتماعية (Socialization) أو التربية السطحية التي ترسخ أنماطاً فكرية محدودة أو منحازة.
و يشير التعلم السلبي إلى استيعاب أنماط معرفية أو قيمية تؤدي إلى تقييد التفكير النقدي، مثل:
• تصديق المعلومات دون التحقق.
• الاعتماد على السلطة أو العُرف كمصدر وحيد للحقيقة.
• تكرار الممارسات دون وعي بالبدائل.
و تتجلى آليات تعلم الجهل فيما يأتي:
1. التلقين المعرفي المشوَّه
عندما تُقدَّم المعرفة في بيئة تعليمية أو إعلامية تعتمد على الحفظ الأعمى دون النقد، يصبح الطالب قادراً على ترديد المعلومات دون فهمها أو اختبار صحتها.
2. التحيز التأكيدي (Confirmation Bias)
يميل الأفراد إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتهم السابقة، متجاهلين أو رافضين الأدلة المخالفة لوجهات نظرهم.
3. الخوف من المعرفة:
قد تهدد بعض المعارف هوية الفرد أو قِيَمهِ أو مصالحهِ، فيتجنبها لا شعورياً.
4. المرغوبية الاجتماعية للجهل:
حين يصبح الجهل سمة مقبولة أو حتى ممدوحة داخل جماعة ما، فإن الفرد يتعلم أن الانحياز إلى الموروث أهم من البحث عن الحقيقة، حيث ينال من خلالهِ رضا الآخرين و إستحسانهم.
5. العوامل النفسية والاجتماعية المساهمة:
•البيئة التعليمية التقليدية التي تركز على الامتحانات والدرجات بدل التفكير النقدي.
•الإعلام الموجّه الذي يختار المعلومات بما يخدم أجندة محددة.
•السلطوية الثقافية التي ترفض التساؤل أو الاختلاف في التفكير و المعتقد.
•ضغط الأقران الذي يدفع الفرد إلى الامتثال للجهل الجماعي.
6. الآثار المترتبة على الفرد:
إنخفاض الكفاءة المعرفية، و ضعف مهارات حل المشكلات، و الاعتماد على الغير في اتخاذ القرارات.
أمّا آثار تعلم الجهل على المجتمع فتظهر في التخلف و ضعف في التنمية على كل الصعدّ، و تفشي الظواهر السلوكية الشاذّة و الغريبة و ضعف في الابداع و الابتكار، والقابلية العالية لدى الأفراد على التضليل.
7. استراتيجيات مواجهة تعلم الجهل
1. تعزيز التفكير النقدي عبر المناهج التربوية.
2. إتاحة مصادر متنوعة للمعلومة وتشجيع التحقق منها.
3.إعادة تصميم الخطاب الإعلامي ليكون تحليلياً لا دعائياً.
4.تدريب المعلمين على تشجيع الحوار والانفتاح المعرفي.
5.التثقيف النفسي حول آليات الانحياز المعرفي وخداع الذات.
إذن فـ"تعلم الجهل" ظاهرة نفسية-اجتماعية معقدة، تتجاوز حدود غياب التعليم إلى بنية مكتسبة تمنع النمو المعرفي. مكافحتها تتطلب إصلاحات تعليمية وإعلامية وثقافية متزامنة، مع وعي فردي وجماعي بآليات التفكير النقدي. إن معالجة هذه الظاهرة ليست ترفاً فكرياً، بل شرطاً أساسياً لبناء مجتمع قادر على التعلم المستمر ومواجهة التحديات المعرفية.
جذور ظاهرة تعلم الجهل في الجامعات العراقية:
السياق التاريخي والاجتماعي:
مرت الجامعات العراقية منذ ثمانينيات القرن العشرين بمراحل متقلبة أثرت على بنيتها المعرفية. فقد أدت الحروب، والعزلة الدولية، والتقلبات السياسية إلى انقطاع مستمر عن مصادر المعرفة العالمية، وفرض خطاب أكاديمي قائم على التلقين والتبعية الفكرية. وفي كثير من الأحيان، تم توظيف التعليم لخدمة أيديولوجيات سياسية أو قومية، ما جعل الولاء للنظام أو الجماعة أحيانًا أكثر قيمة من البحث عن الحقيقة العلمية، و مازالت هذهِ الحالة متفاقمة و مستمرة إلى يومنا هذا.
و تتجلى مظاهر تعلم الجهل في البيئة الجامعية فيما يأتي:
1.المناهج المغلقة:
غالبية المناهج في بعض الجامعات ما تزال تعتمد على مراجع قديمة أو ترجمات غير دقيقة، مع إهمال للأبحاث الحديثة، مما يؤدي إلى تعلم معلومات منتهية الصلاحية معرفياً.
2.التلقين بدل التحليل:
تركز الامتحانات على الحفظ النصي أو ما يُسمّى ب"الدرخ"مما يخلق أجيالاً تجيد إعادة إنتاج المعلومة دون وعي بالسياق أو القدرة على نقدها.
3.تسييس المعرفة:
في بعض التخصصات، يتم تقديم المادة العلمية بانتقائية تتماشى مع توجهات فكرية أو أيديولوجية، مما يرسخ الجهل الانتقائي.
4.التقليل من قيمة البحث الميداني:
هناك ضعف في تشجيع الطلبة على إجراء دراسات مستقلة أو ميدانية، مما يقلل فرص الاحتكاك المباشر بالواقع وتطوير مهارات البحث.
العوامل النفسية والاجتماعية المساهمة في تعلم الجهل هي:
•ثقافة الخضوع للسلطة الأكاديمية: يتكون لدى الطالب شعوراً بالتوجس في مناقشة الأستاذ أو نقد محتوى المنهج الأمر الذي قد يُعد تجاوزًا، مما يعزز ذلك نقص في عملية الإستيعاب و التعامل مع فهم منقوص و هو تكريس لعملية تعلم الجهل بعينهِ.
•ضغط الأقران الأكاديمي: الامتثال لمعايير "النجاح السهل" بالحفظ والنسخ بدل الابتكار.
•الإرهاق المعرفي: ضعف البنية التحتية والموارد، مع كثرة الأعباء الإدارية على الأساتذة، يجعل من السهل إعادة إنتاج المعرفة الموروثة بدل البحث عن الجديد.
. إنحدار المستوى العلمي و المعرفي و الثقافة العامة للكادر التدريسي، و إكتظاظ الجامعات العراقية بشهادات عليا فارغة المحتوى و القاب علمية مزيفة لا تسعف التدريسي الجامعي على التفكير العلمي الحصيف و حتى على كتابة جملة مفيدة من بنات أفكارهِ.
- و تتمثل تداعيات تعلم الجهل على المدى البعيد فيما يأتي:
•تخريج كوادر محدودة الكفاءة النقدية، ما ينعكس سلبًا على سوق العمل والإبداع العلمي.
•انتشار الجهل المُمأسس، حيث يصبح الجهل جزءًا من الهوية الأكاديمية لجيل كامل.
•إعادة إنتاج نفس النمط، إذ يتحول طلاب اليوم إلى أساتذة الغد الذين يكررون نفس النماذج.
- مقترحات لمعالجة الظاهرة
1.تحديث المناهج بانتظام مع إدخال مصادر بحثية عالمية.
2.تعليم مهارات التفكير النقدي كمقررات أساسية لجميع التخصصات.
3.تحفيز البحث العلمي التطبيقي عبر دعم مشاريع طلابية ميدانية.
4.إعادة تأهيل الكادر الأكاديمي للتخلص
5- استبعاد التدريسيين ذوي الإمكانات المتواضعة تدريسياً و لغوياً و ثقافياً من الوسط الجامعي، و وضع معايير علمية رصينة في إختيار و تعيين الكادر التعليمي، بعيداً عن الولاءات الحزبية و المذهبية و الطائفية.
6.ربط الجامعات بالشبكات البحثية الدولية لضمان تدفق المعرفة الحديثة.
* إستاذ جامعي

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram