TOP

جريدة المدى > سينما > البطل المضاد وهواجس "النيون نوار"..حكاية حسن وكلبه رامبو

البطل المضاد وهواجس "النيون نوار"..حكاية حسن وكلبه رامبو

نشر في: 21 أغسطس, 2025: 12:29 ص

علي الياسري
تقف شخصيات (فيلم البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو) على حافة جرف العالم المظلم يتطلعون لهوته السحيقة بعد ان استنزفهم عصر ما بعد الحداثة بإضاءته الحلمية، عصر العولمة والذكاء الاصطناعي والتواصل الافتراضي حين تتضخم الملامح المادية للحياة للحد الذي باتت فيه هي التقاسيم الابرز لوجه الفرد والمجتمع حيث العيش النمطي المُفرغ المضمون والمقولب بإعلانات التسليع والاستهلاك البراقة، عندها يصبح البطل المضاد نموذج مُحدَّث يعكس التعقيدات الاجتماعية للكيان البشري ازاء المنظومة السلطوية للسياسة والاقتصاد. فهو الشخصية المتوحدة والهاربة من مواجهة كل شيء سوى من انغماس في العزلة الحضرية والتشظي. انه صورة تُجَسّد شكوكًا لا نهائية تنبع من واقعه الوجودي حيث يتخبط في صراعات ذاتية تردد تساؤلات عن جدوى الحقيقة والعدالة وامكانية تحققهما بحياة المُهَمَشين.
حسن (عصام عمر) رغم عمله كرجل أمن (حارس) غير انه يفتقر الى الثقة بالنفس ويصارع وحدته، حاجته الماسّة الى الالفة العاطفية والاسناد الاجتماعي سوى من والدته دفعت علاقته القوية مع كلبه رامبو لتصبح مثل الترياق لتحدياته النفسية والحياتية وملاذ لروحه المضطربة بدواعي الفقد لأشياء كثيرة وأولها وجود الاب. ان فعل الافتراس الذي يفتتح فيه الفيلم صورته يتقاطع مع عمل حسن كرجل أمن، ففي اسقاط مُظلم تبدو بعض حروف كلمة أمن بالانكليزية المكتوبة على ظهر سترته منزوعة في كناية بصرية –وهي حلقة في سلسلة عديدة من التعبيرات بالصورة تضمنها الفيلم تمثل احالات رمزية تسقط على واقع اجتماعي- عن هذا الشعور المهم للبشر والمُفتَقد بظل عالم متوحش يبدو فيه فعل الافتراس -بوجوهه المتعددة بين الاقتصاد والسياسة والاجندات الاجتماعية وحتى الفعل الثقافي المتساوق في انتهازية مع محيطه المادي- واجهة عريضة براقة تلتهم حيوات المسحوقين. مفارقة حروف كلمة الامن المفقودة ستكتمل في مشهد لاحق حين يفيض بحسن كل شيء فيدرك ان الاصلاح لها غير مُجدي كما طلبت والدته منه فيبادر الى انتزاعها كلها من السترة. لقد تيقن من ان العيش بعالم منزوع الاخلاق يتطلب ان تتعامل بمنطق قانون الغاب حيث القوة بوجوهها المتعددة هي المظهر والجوهر.
البطل المضاد
في رحلة حسن بين سكون السلبية وقوة رد الفعل على تنمر المُحيط المتمثل بشخصية كارم (احمد بهاء) صاحب الورشة الساعي الى الاستيلاء على الشقة/منزل العائلة/الوطن يكسِر مُجبرًا كل قيود شكوكه واستكانته متحديًا ذاته في تنمية الاواصر مع الاخرين وأولها العاطفة الانسانية الأثمن (الحب) مع أسماء (ركين سعد) الشخصية الساندة التي تختزن في ذاتها شعورًا نقيًا يدفعها لتساعده بكل ما في القلب من توق. يدافع حسن بحافز من كلمات امه عن حقيقة ان ارض الوطن تبدأ من مساحة المنزل وأن المغادرة مهما حملت من سلام فهي ليست بديل عن مواجهة مؤجلة مع واقع يفرض نفسه بكل شراسة. هكذا تتجلى شخصية البطل المضاد حيث ينبع الانتقام من صراعاته النفسية المكبوتة، وبعد ان كان صمته هو احتجاجه السلبي على ما يجاوره صار سلوكه الدفاعي عن كلبه رامبو ورحلته في البحث عن ملاذ أمن له هي الانتقالة الاهم في نمو شخصيته نحو توضيح ضمني يقر فيه ان مجتمع اليوم لا يعترف الا بالقوة والعنف كرادع تجاه الاخر المُتنمر المُستقوي. ربما يفسر لنا هذا الاسقاطات الذكورية التي رسمها كاتبا السيناريو محمد الحسيني وخالد منصور على شخصية كارم المستعرض لمظاهر قوته بدءًا من المستوى المادي بمسعاه للاستحواذ على منزل حسن ووالدته بالترهيب والترغيب. وكذلك بالبروز الجسدي مفتول العضلات كواجهة لهذه السطوة على الاخر. غير ان المفارقة الاهم هي انكسار المظهر العدائي لكارم على يد الكلب رامبو الذي استطاع عند عضه في منطقة الذكورة الحساسة ان ينال من هيبته الفارغة ويتركه تحت عار الهزيمة امام حيوان، حدث سيرسم لحسن طريق الوصول الى روحه الضائعة في تنامي درامي ملفت لشخصية البطل المضاد من خلال استكشاف قدرات ذاته بمواجهة المحيط اثناء رحلة حماية رامبو من مسعى كارم المحموم لقتله انتقامًا لفحولته المهدورة.
النيون نوار
لقد ظهرت في السنوات الاخيرة عدة افلام تحكي عن الاغتراب والتعقيدات النفسية والاجتماعية للفرد الانساني المعاصر وتأثيرات العلاقة مع الكلاب في خلق المناخ العام للسرد السينمائي مثل فيلم دوغمان للمخرج الايطالي ماتيو غاروني وفيلم دوغمان للمخرج الفرنسي لوك بيسون وفيلم بلاك دوغ للمخرج الصيني غوان هو. شخصياتها منعزلة صامتة تعيش لامبالاة شعورية بعد نكسة حياتية عميقة ما يؤدي الى عجز عن التواصل وصعوبة في بناء العلاقات وسط عالم معقد سريع الايقاع يلتهم الارواح فيمتصها ثم يلفظها. وبناءً على كل ذلك تصبح العلاقة مع الكلاب خيار طبيعي مادام يشكل بيئة داعمة ومؤثرة عاطفيًا. غير ان المخرج خالد منصور نظر الى فيلمه برؤية بصرية ذكية منحته الستايل الفريد من خلال استخدام النيون نوار كأسلوب جمالي وفني تعبيري في معالجة موضوعة العنف الكامن والغموض السلوكي متأرجحًا على تنويعات المعنى للالوان حسب المشهد فكان طغيان الاخضر ثم الازرق وتدريجاته والرمادي. النيون نوار الجامع لظلمة النوار الكلاسيكي وحيوية النيو نوار يقدم من خلال التناقض بينهما صورة تؤطر اجواء المكان بتوهج مُنَمّق اشبه بالحلم يغمر الشخصيات ويوجه ليل المدينة نحو لوحة سينمائية سريالية تتكثف في تفاصيلها اضواء ندية على واقع الارواح وحكاياتها حيث الموضوعة الدائرة في فلك افرازات التغيير الاجتماعي الناتجة من سرعة التطور الحضاري والتقني والضغوط المادية والنفسية واثرها على سلوك الفرد. ان ألوان النيون المُشبعة تقدم انعكاس امثل للعالم الداخلي للشخصيات واضطرابها الشعوري، فتصبح عنصر اساسي في ادارة نسق السرد والانتقالات الدرامية. امر شاهدناه في كل مرة يقرر فيها حسن او خصمه كارم تطوير السلوك وردود الفعل في الانعطافات المهمة على صعيد السيناريو حيث تكون فيها اضاءة النيون اشارة بصرية هامة تؤطر ضمن الكادر صورة البيئة والشعور التي يتحرك فيها الشخوص بناء على تطور الحدث، ما يخلق لغة بصرية ترسخ نهج المخرج خالد منصور في تقليل الحوار وتنمية عناصر النمط البصري مدعومة بمقاربة كاميرا مدير التصوير احمد طارق بيومي الفطنة بنوع اللقطة وزاويتها لتغذية ايقاع السرد وعكس رمزيات الحكاية.
هناك اثنين من المشاهد التي يمكنها توضيح كيف استطاع صُنّاع الفيلم توظيف العناصر البصرية والبيئة المكانية في فيلم النوار عمومًا والنيون خصوصًا لخدمة القصة وقدرتها الواسعة على نقل المزاج الشعوري حسب الموقف والحالة السيكولوجية للشخصيات ازاء التطور الدرامي الحاد الواقع عليها كما في مشهد ذهاب كارم مع عاهرته الى المقابر من اجل اختبار ذكورته وقدرته الجنسية بعد ان عضه الكلب رامبو اثناء تهجمه على حسن حيث يكون اختيار المقابر كناية عن فكرة الموت التي تؤطر الهاجس الشخصي لكارم بدءًا من هوسه بمعرفة احتفاظه بقدرته الجنسية من عدمها وانتهاء بفكرة الانتقام المستحوذة عليه وقراره بحتمية موت رامبو وحتى حسن ان تطلب الامر. ان التباين العالي للظلمة مع ضوء النيون الاخضر يعطي تعبير يستدعي احساس عدم الارتياح والضيق بالنظر الى طبيعة المكان وموقف الشخصية الدرامي. المشهد الاخر حين يذهب حسن الى الجامع وهو في ذروة احباطه بعد اصابة رامبو ومعاناته من اجل ايجاد اي مأوى للكلب حيث يستحوذ اللون الاخضر ايضا ولكن بمعنى جديد على تدريجات الالوان في الصورة وبالنظر الى البيئة المكانية نرى ان سلوك حسن تغير من الغضب الى الاسترخاء الشعوري. ففكرة التقرب الى الله عززت عنده من التأمل الروحي والتفكير الهادئ.
الرؤية السينمائية
تطلع صُنّاع (البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو) نحو رؤية مستقبلية للحياة في مدينة تغرق بغواية المعاصرة وفتنة التحولات الصعبة التي تمتص الارواح كما تشير الى ذلك اغنية شجر الليمون المُنتهي بها الفيلم. لقد ألتقطوا تشوش الهوية نتيجة التغير الاجتماعي القاسي على الارواح الهشة المأسورة في دولاب التحولات الاقتصادية الحادة وطبيعة السياسات الحاكمة وسط عالم يتشبع بالبهرجة والتزويق فكان النيون نوار خيار سينمائي فعّال يحقق مقاربة الرؤية الفنية حيث النوازع الشريرة ترتدي قناع التفاهة والوضاعة والخواء مقارنة بالحب النقي والعاطفة النبيلة، وموضحين ان الروابط الادمية الحقيقية تكون في التواصل الشعوري الصادق والرحمة والانتماء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

محمود هدايت: في السينما الشاعرية لا توجد صور قطّ.. بل أزمنة

"الست" عن حياة أم كلثوم محور حديث رواد مواقع التواصل الاجتماعي قبل عرضه

رحلة إلى عوالم البحر الأحمر السينمائي

مقالات ذات صلة

سينما

"الست" عن حياة أم كلثوم محور حديث رواد مواقع التواصل الاجتماعي قبل عرضه

متابعة: المدى لم يلبث فريق عمل الفيلم المصري "الست" أنْ عرَض الإعلان الترويجي للفيلم الذي يجسّد حياة "كوكب الشرق"، أم كلثوم، التي تقوم بدور شخصيتها الفنانة المصرية منى زكي، حتى ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram