علاء المفرجي
- 2 -
لقد توصلت السينما خلال تاريخها الى تكوين ابعاد جمالية، واوجدت للشريط السينمائي قواعده الفنية ولغته (خصائصه السينمائية).. وهذا يفرض ملاحظة المسافة التي تفصل الفيلم عن الكتاب.. بعض المعلقين يعتقد- كما كتب جانيتي- بانه اذا وصل العمل الفني ذروة قدرته التعبيرية في احد الاشكال الفنية فان الاعداد سيكون حتماً ادنى من الاصل، وطبقاً لهذا الجدل، لا يمكن لأي اعداد عن رواية "موبي ديك" مثلاً ان يضاهي الاصل- لم ينجح هيوستن في ان يكون اميناً على الرواية ولا لأي رواية الامل في تجسيد فيلم "المواطن كين" لويلز.. في حين يرى البعض في فن السينما بانه تطور تاريخي يكمل ما اراد الروائيون ان يتوصلوا اليه منذ القرن الماضي، وذلك بطريقة غير مباشرة "عن طريق مضاعفة الوصف وتغيير الالفاظ وتثبيت نقل وجهات النظر"- لنتذكر قراءة ويلز لرواية المحاكمة لكافكا وهذا يفسر كما نرى- نجاح الافلام التي تعتمد على مصادر ضعيفة، فيلم "مولد امة" مثلاً اقتبس عن رواية رخيصة لتوماس ديكسون بعنوان "رجل القبيلة" وهو ما يبرر من وجهة اخرى- صعوبة الاعداد السينمائي عن الاعمال الادبية الكبيرة.
السينما الحديثة كما تراها ماري كلير روبار- تتجه الى ان تكون تركيبية اكثر منها مرئية، وغير مباشرة اكثر منها تصويرية.. وهذا ما يجعلنا نفكر، في ان السينما الحديثة وان استطاعت تحقيق بعض التطلعات الادبية، فهي في نفس الوقت، تتفق مع تطلعات سينمائية قديمة رجوعا نحو السينما الصافية) وهذا ما يجعلنا نميل الى رفض اعتماد السينما على الادب.
من وسط هذه المعضلات، تبرز الكتابة للسينما بوصفها عملية ذات طراز خاص، تمتلك مقوماتها الفنية، وتتشكل لتصبح لوناً آخر من الكتابة يحقق وهو المهم- متطلبات فن الفيلم، وتبرز الفكرة بدورها عاملاً حاسماً في تحديد البعد الدرامي للفيلم ومهما تكن الفكرة بسيطة فان الفيلم يتناولها، ويوسعها في خط درامي، وتسهم العناصر الفيلمية في تحويلها على نحو سينمائي، لا يقدم مجرد الوسيلة السينمائية، بل يبدع فناً سينمائياً.
مادة الموضوع وحدها لا يمكن ان تكون مؤشراً يعتمد عليه للنوعية في الفيلم، ان على السينمائي ان يترجم موضوعه الى اشكال خاصة بوسيلته التعبيرية ووفق هذا المنظور، ستبدو رواية عظيمة مثل (الجريمة والعقاب) مجرد قصة عادية كما المح انطونيوني مرة-، فعبقرية الرواية تكمن في كيفية سردها وليس في مادة الموضوع وهذه فكرة مضادة للأدب كما يعتقد جانيتي- وهي تعزز ما اوردناه سابقاً بان عدداً كبيراُ من الافلام الممتازة انما اعتمدت على نصوص ضعيفة.
ومصدر الافكار في السينما يُقدم كما في اي فن- من خلال الحقيقة الواقعية للحياة، هذه الحقيقة التي لا يمكن ان "تُستنفذ".. ومن المناسب في هذا المجال ان نلجأ الى اراء دستويفسكي حول اقتناعه بان الافكار العميقة حقاً "تقدمها الحياة الاعتيادية (الجارية)" فمن ملاحظة تصدر عنه يقول "تتبعوا حقيقة من حقائق الحياة الواقعية، حقيقة لا تبدو بارزة جداً للوهلة الاولى، واذ كنتم تتحلون بالقدرة الكافية، واذا كانت لديكم عين تبصر، فأنكم واجدون دون شك في هذه الحقيقة عمقاً لا نصادفه حتى عند شكسبير غير ان كل المسألة تتوقف على ما ياتي: في نظر من ومن الذي ستتوفر لديه هذه القوة؟ حقاً.. انه من اجل ان نلاحظ الحقيقة فقط فلا بد من فنان".. ودستويفسكي يرى بانه من اجل ان تحصل على افكار عميقة لابد من قراءة الصحف ففيها "نصادف عرضاً اكثر الحقائق واقعية واكثرها تعقيداً".. ولدى الفنان المراقب ليست القضية كما يشير دستويفسكي- قضية مادة، بل قضية عين، فان كانت هناك عين ستكون المادة حتماً موجودة "وقد ترى عين موضوعاً هناك فيما ترى عين اخرى مجرد تراكم".. فهي اذن قضية الانغمار كلية في "الحياة الجارية" والكشف فيها عن الدرامات الجديدة والعظيمة، وعن المعنى العظيم الذي لم يكن ما يماثله.









