د.خالدة خليل
لم تنجح الأنظمة المتعاقبة منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 في تجاوز الطائفية أو التحرر من قيودها، بل بدا وكأنها، في كل مرحلة من مراحل التحولات السياسية، تعيد نسج هذه اللعنة وتغذيها بصيغ متجددة وأساليب متقنة. ومن هذا المنطلق، لا يمكن للطائفية أن تُفهم بأنها مجرد ظاهرة اجتماعية عابرة، بل هي بنية سياسية متجذرة في صميم الدولة منذ ولادتها. الدولة التي شُيّدت على مؤسسات رخوة تحت ظلال الانتداب البريطاني، حين أقصت الكورد والشيعة عن مفاصل القرار السياسي والأمني، لتتكرس لاحقًا أنماط القمع والإقصاء في عهد البعث، حيث تجسّدت في حملات الإبادة الجماعية ضد الكورد، وتلتها قمع انتفاضات جنوب العراق عام 1991، كاشفة عن عمق الهوة بين السلطة والمجتمع، وموضحة الشرخ الطائفي الذي أدمى جسد الدولة، وجعل نسيجها الوطني يئن تحت وطأة الألم والصراع المستمر.
وبعد عام 2003، حيث كان الأمل معقودًا على ولادة نظام سياسي يرتكز على التوازن والشراكة، ويشكّل التوافق البديل الحضاري للطائفية، وحيث تُصان الحقوق المتساوية لجميع المكونات، ويُبنى القرار السياسي على أسس الحوار والعدالة والمواطنة المشتركة، بدا وكأن العراق يشرع أخيرًا في فصل جديد من تاريخه، يضع حدًّا لعقود من القهر والإقصاء. إلا أن هذه التجربة، التي وُلدت على أمل الإصلاح والتحول الديمقراطي، انزلقت سريعًا إلى هاوية المحاصصة والفساد، فتحولت الطائفية إلى هوية بديلة، ومعيار لتوزيع النفوذ والموارد، ووضع العراق تحت وطأة الانقسامات الداخلية. والأكثر إيلامًا كان صعود تنظيم داعش عام 2014، الذي لم يكن إلا أخطر تجليات هذا الانقسام المزمن؛ إذ استغل التنظيم مشاعر التهميش ليجد له حواضن اجتماعية في مناطق عاشت سنوات من الغبن والإقصاء، قبل أن يرتكب أفظع المجازر بحق الإيزيديين والمسيحيين وغيرهم، ممثّلًا ذروة الكارثة التي يندى لها جبين الإنسانية.
وللتاريخ، فإن سقوط الموصل لم يكن مجرد حدث عسكري، بل كان الثمرة المرّة لإنقسام طائفي وسياسي مزّق النسيج الوطني، وأفقد الدولة سيطرتها، وفتح الأبواب على جحيم المجازر والخراب، مذكّرًا بأن غياب التوازن والشراكة والتوافق ليس خطأً عابراً، بل إرث مأساوي بسبب فشل المؤسسات وطغيان الطائفية.
واليوم، تتجلّى الحقيقة بوضوح لا لبس فيه: العراق لن يعرف الاستقرار ما لم تتحطم قيود الطائفية، تلك اللعنة التي لطالما أثقلت كاهل تاريخه، ويُبنى على أنقاضها نظامٌ للمواطنة الحقّة، حيث لا يُقاس الحكم إلا بالكفاءة، ولا يُقدّر القرار إلا بالعدالة.










