TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باستثناء الفلسطينيين: حين تُؤسّس الصهيونية وجودها من اللغة

باستثناء الفلسطينيين: حين تُؤسّس الصهيونية وجودها من اللغة

نشر في: 24 أغسطس, 2025: 12:01 ص

محمد صباح

مقدمة: من يملك الأسماء، يملك المصير.
ليس أكثر فداحةً من كارثةٍ تقع على كائنٍ لا يملك الكلمات لقولها.
تُحطّمك الحروب حين تهزم جسدك. لكن يُحطّـمك العدو تماماً، حين يفرض عليك لغته كي تشرح بها هزيمتك.
لقد نُفي الفلسطيني لا من أرضه فقط، بل من الجملة التي يستطيع بها أن يقول "أنا".
فمن لا يملك لغته، لا يملك شقائه. ومن لا يملك شقائه، لن يملك خلاصه.
والمصيبة، كل المصيبة، أن الفلسطيني اليوم يوقّع على اختفائه بلغة خصمه.
لا شيء أشدّ استعماراً من أن تُضطر إلى استعارة المفاهيم التي صاغها من هجّرك، فقط لكي تقنع العالم بأنك مظلوم.
النكبة ليست حدثاً، بل هي نزع للقدرة على التسمية.
لقد صار على الفلسطيني أن يقول "شتات"، بدل أن يقول: "أنا الأصل".
أن يقول "عودة"، كأنّه كان خارجاً حين وقعت المصيبة.
أن يقول "مستوطنات"، بدل أن يقول: "استعمار صريح".
أن يقول "الجيش الإسرائيلي"، بدل أن يقول: "العنف المُصفّى من كل شرعية".
لكن لماذا هذا الانهيار الخطابي؟
لأن الفلسطيني لم يُهزَم وحده، بل هُزم معه العرب جميعًا، حين وافقوا على أن يُسردوا وجودهم من داخل المخيال الذي اخترعه أعداؤهم.
ذلك أن الاحتلال لا يحتاج إلى جيوش حين ينجح في إقناع ضحيته بتبنّي معجمه.
إن الهزيمة لا تبدأ من الميدان، بل من الكلمات.
وما لم نستعد جرأتنا على تسمية العالم خارج قاموس أعدائنا، فلسنا سوى خُدّامٍ في سردية لا نملك منها سوى موقع الندم، أو الطاعة، أو التأويل المهذّب.
كلّ ما فعله الفلسطيني حتى الآن هو أنه أعاد صياغة الظلم بصيغة التوسّل،
فحوّل النكبة إلى مناسبة شعاراتية،
وحوّل الكيان الذي استلبه إلى "طرف تفاوضي"،
وأصبحت اللغة ملاذه الوحيد… لكنه نسي أن هذا الملاذ تمّ احتلاله أولاً.
إن اللغة، حين لا نملكها، تصير قفصاً نحمل مفتاحه في جيب خصمنا.
ومن يدخل قفص اللغة المهزومة، فلا ينتظرنّ خلاصاً من بوّابة المعنى.
السؤال الذي لم يُطرح بعد، ليس: "ماذا نفعل لتحرير فلسطين؟"
بل: "كيف نحرر فلسطين من سردية العدو؟ ومن وهم التسوية؟ ومن أكذوبة اللغة المشتركة؟"
الصهيونية ليست مشروعاً سياسياً فحسب، بل هي الحدث اللغوي الأعظم في تاريخ العنف الحديث.
لقد أعادت تعريف المعنى، فتأسست.
وصادرت اللغة، فوجدت ذاتها.
واخترعت شعبًا، فاختفى الشعب الحقيقي.
وها نحن، بعد أكثر من قرن على بدء الرواية، لا نزال نستخدم مفرداتهم لنشرح مصيبتنا، ونُحاورهم بأدواتهم، ونطلب اعترافهم بنا، كأنّ وجودنا قابل للتفاوض.
لكن من لا يجرؤ على إعادة نحت المعجم، لا يجرؤ على امتلاك مصيره.
ومن لا يبدأ بالمعنى، ينتهي حتماً بالهزيمة.
️الصهيونية كميتافيزيقا لغوية:
ليست الصهيونية مشروعاً سياسياً بالدرجة الأولى، بل هي حيلة لغوية كبرى. ما فعلته ليس استعماراً لأرض، بل تفكيكاً لمعنى الأرض، وإعادة بنائه لغوياً.
1. من النبوءة إلى الاختراع:
حين كتب ليو بينسكر كُتيّبه الشهير التحرر الذاتي (1882)، كان لا يزال يرى المسألة من داخل "المشكلة اليهودية"، لا من داخل الفلسطيني الغائب. قال إن "الأمم تتعامل مع اليهود كجسم غريب"، فكان الحلّ أن يكون لهم وطن. لكن المفارقة أن هذا الوطن لم يكن امتداداً طبيعياً لوجودهم، بل امتداداً لمخاوفهم.
أما ناثان بيرنباوم / الذي صاغ لأول مرة كلمة "صهيونية" / فقد فهم مبكراً أن القضية ليست أرضاً، بل لغة.
قال ذات مرة: "اللغة العبرية ليست وسيلة تواصل… إنها عمود الروح اليهودية".
لقد أراد بيرنباوم أن يُنشئ شعباً ليس من تراب الأرض، بل من تراب المعجم.
2. آحاد هاعام: الدولة ليست كل شيء:
في زيارته الشهيرة لفلسطين عام 1891، كتب آحاد هاعام: "نحن هنا لا نتعامل مع أرض بلا شعب… هناك شعب يسكن، يعمل، ويحيا… لكننا نأتي بقوة، نغتصب الأرض ونحتقرهم… فهل هذا هو ما نريد أن نكونه؟".
ورغم ذلك، لم يكن "آحاد هاعام" معارضاً للصهيونية، بل مؤسساً لها روحياً. لقد رأى أن الخطر ليس فقط في استعمار الأرض، بل في تخليق شعب وهمي دون وعي أخلاقي بمصير الآخر.
3 - بن يهودا: نحو لغة لاجئة:
المستحيل الأكبر الذي حقّقته الصهيونية لم يكن الحرب، بل اللغة. إليعازر بن يهودا / معجميّ الجنون / قرر أن يُعيد الحياة إلى لغة دينية ميتة لتصبح لغة الحداثة. لم يكن يريد قاموساً، بل إعادة برمجة الإنسان اليهودي.
كلّ كلمة أُضيفت إلى القاموس كانت كأنها تُرسَم على حدود خارطة مستقبلية.
4 - شلومو زاند: الشعب كخرافة حديثة:
في كتابه اختراع الشعب اليهودي، يهدم شلومو زاند الأسطورة الصهيونية من داخلها. يقول: "إذا كانت بعض المجتمعات اليهودية قد حافظت على طابع معين، فليس ذلك لأنّها جزء من عرق خالص، بل لأنها بُنيت تاريخياً بوصفها أقليات دينية في المنفى".
الصهيونية لم تُخلَق لتُرجع شعباً إلى أرضه، بل لتصنع شعباً يُقنع نفسه أنه من هذه الأرض.
5 - إفرايم موسى ليليان: رسام الهوية البصرية الصهيونية
لا تقتصر عملية اختراع الشعب الصهيوني على اللغة فحسب، بل تتعداها إلى صناعة الصورة والهوية البصرية التي تدعم السردية الجديدة. كان إفرايم موسى ليليان أحد أبرز الرسامين الذين ساهموا في ترسيخ هذه الهوية البصرية الصهيونية. لم تكن رسوماته مجرد أعمال فنية، بل أدوات رمزية لإعادة بناء الذاكرة الجمعية، وصياغة الشعب من خلال الصور التي تعبر عن الأرض الموعودة، البطل الجديد، والهوية اليهودية التي تتجاوز التاريخ الحقيقي للفلسطينيين. كانت لوحات ليليان تكرس فكرة "أرض بلا شعب"، وتُخفي، بالخطوط والألوان، تواجد الفلسطينيين الذين يُجردون من الوجود البصري، فتصبح اللغة واللوحة معًا سلاحًا مزدوجًا في تفكيك الذاكرة وفرض سردية جديدة.
️الفلسطيني خارج النصّ - باستثنائه:
بعد أن أنجزت الصهيونية اختراعها اللغوي، بقيت المعضلة الكبرى: ماذا نفعل بالفلسطيني؟
الحلّ بسيط: لا نذكره. لا نمنحه اسماً، لا دوراً، لا تاريخاً.
هو ليس الخصم، بل الفراغ الضروري الذي نُعمّر عليه "الشعب المختار".
المأساة الكبرى أن الفلسطيني نفسه راح يستخدم نفس المعجم.
أصبح يتحدث عن "العودة"، كأنّ حقه مجرد رحلة سفر.
أصبح يستخدم كلمة "المستوطنات" كأنها مجرد بيوت مؤقتة.
يسمّي جيش الاحتلال بـ "الجيش الإسرائيلي"، ويؤرّخ نكبته بحسب ما فعله العدو، لا بحسب ما عاشه هو.
لقد دخل الفلسطيني السجن اللغوي، وصار - دون وعي- يسرد نفسه من داخل اللغة الصهيونية.
ما العمل؟ نحو كينونة فلسطينية خارج السردية الصهيونية:
في البدء كانت الكلمة.
وحين يُحرم الإنسان من كلمته، يُصبح محكوماً بأن يُعرّف نفسه حسب شروط العدو.
لهذا، فإن أول سؤال على الفلسطيني أن يطرحه ليس: "كيف أقاوم الاحتلال؟"
بل: "بأية لغة أُعرّف مصيبتي؟".
1 - لا مقاومة دون معجم جديد:
حين تقول "حق العودة"، فإنك / دون أن تدري / تفترض أن مكانك الطبيعي خارج فلسطين.
وحين تقول "الشتات"، فإنك تكتب نفسك كيهوديّ جديد، منفيّ يبحث عن أرض الميعاد.
وهكذا، يصير الخطاب الفلسطيني ظلاً مقلوباً للخطاب الصهيوني، لا نقيضاً له.
2 - أنسنة المصيبة:
يجب أن يكتب الفلسطيني نفسه لا كضحية، بل كذات فاعلة، تُنتج معناها من الداخل، لا كردّ فعل خارجي.
3 - النكبة نمط وجود:
النكبة ليست سنة 1948.
النكبة هي أن تعيش في عالمٍ لغته ليست لغتك، خريطته لا تحتويك، وسرده يبدأ من لحظة طردك.
4 - تفكيك الرموز الاستعمارية
"اللاجئ" = تقليص وجودي.
"المفاوضات" = اعتراف بالشرعية المفقودة.
"الاعتدال" = رهاب لغوي من معنى الذات.
علينا أن نُعيد تسمية كل شيء.
أن نكتب معجماً جديداً لا "يعتذر" عن ذاته.
️ الخاتمة:
ليست المصيبة أن تُحتل أرضك، بل أن تُعِدّ طاولةً للمحتلّ كي يكتب تاريخك.
أن تسلمه مفاتيح لسانك، ثم تنتظر منه أن يقرّ بإنسانيتك.
أن تصرخ في وجهه بلغةٍ اخترعها هو لكي تجعلك قابلاً للاستعمار.
فلسطين ليست "قضية"؛ لأن القضايا تُحلّ بالمفاوضات.
وليست "رمزاً "؛ لأن الرموز تُعقّم وتُعلّق على الجدران.
فلسطين هي اسم الذات حين تفقد قدرتها على القول الحر.
الهزيمة الكبرى ليست خسارة الأرض، بل استبطان العار حتى يصبح نظاماً للوجود.
المطلوب ليس خطاباً جديداً، بل أن ننسف المنصة التي وُضعنا عليها كضحايا مؤدّبين.
أن نكسر اللغة المهذبة التي تجعل الاحتلال يبدو كـ"نزاع"، والمذابح كـ"أخطاء"، والتطبيع كـ"واقعية سياسية".
لقد آن أوان الخروج من التسميات النظيفة، من الكلمات التي تمّ تعقيمها لتناسب غرف الأخبار ومؤتمرات السلام.
ما لم نحرّر المعنى من يد الخصم، سيظل الفلسطيني مجرد ظلّ باهت في مرآة الآخر.
نحن لا نحتاج إلى عالم يعترف بنا.
نحن نحتاج إلى لسانٍ يُعيد تسمية العالم من جديد.
فالتحرر يبدأ حين نرفض كل جملة لم نكتبها نحن، وكل خريطة لم نرسمها نحن، وكل كيانٍ لم نخترعه نحن.
حينها فقط…
لن تكون فلسطين وعداً في آخر النشيد، بل اسماً لذات استعادت الحق في أن تقول: أنا هنا… بلغتي، وبمفرداتي، وبدون إذن من أحد.
· كاتب فلسطيني

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram