(الجزء السادس) غي هارشير ترجمة: رشا الصباغ سعياً لوعي ينفتح على مديات تنويرية هي من مستلزمات البناء الديمقراطي الجديد، وتحصيلاً لفائدة الاطلاع على تجارب العالم في الارتقاء بالانسان وحقوقه، تعيد آراء وأفكار نشر كتاب العلمانية، على حلقات، للكاتب غي هارشير وبترجمة رشا الصباغ.
2 - علمانيّة وتطييفيّة - والحال أن هذا ما يُخشى حدوثه إذا ما بولغ في احترام الاختلافات إلى حدّ القبول بالعناصر المتعارضة جذريّاً مع فكرة الاستقلال التي تشكّل أساس العلمانيّة بالمعنى الواسع للتعبير، أي أساس مفهوم اقتلاع مسائل الضمير من المجال السياسيّ. هناك أولاً- وهي الحالة الأشدّ وضوحاً- قيمٌ مضادة لليبراليّة في حدِّ ذاتها: تشويه جنسي (عمليات ختان وخياطة الشفرين) للفتيات الصغيرات والشابات، تفرقة في ما يتعلق بالنساء، رفض لحرية التعبير وحريّة الضمير (لمسناه في قضيتي سلمان رشدي وتسليمة نسرين)، ميل السلطات القائمة على رأس مجموعة ما (والتي نصّبت نفسها غالباً) إلى اعتبار (رعاياها) بمثابة ملكيّة خاصّة لها، والدفاع عن دولة دينيّة. غير أنّه، وبصرف النظر عن المضمون (التسلّطي) للقيم مثار الجدال، يجب الطعن كذلك - وهذا أكثر صعوبة- في فكرة تطوّرٍ مستقلٍّ للجماعات. فهكذا تطالب الحركات الأصوليّة في الولايات المتّحدة بالسماح للطلاّب بالاختيار الحرّ بين دراسة (النظريّة الداروينيّة) أو (نظريّة الخلق) في مادّة علم الأحياء. إذ بغضّ الطرف عن حقيقة أنّ هذا (الاختيار) خادع من جميع الوجوه (ذلك أنّ الأهل هم الذين يختارون، ومن خلفهم، الجماعات الأكثر تشدّداً)، فهو يؤدّي إلى نتائج منحرفة كبرى. ذلك أنّنا نضع خيارَ تصوّرٍ دينيّ، شرعيٍّ بصفته هكذا ومتمتّعٍ قانونياً (وغالباً دستورياً) بالحماية، مع مقاربة الظواهر بطريقة حرّة علميّة، في المستوى نفسه: فالأوّل يتعلق بتصوّر خاصّ للحياة (لأنّ جميع الناس لا يقرّون بنظرية الخلق)؛ بينما تتعلّق الثانية بممارسة منفتحة من حيث المبدأ على جميع المحاورين ذوي النوايا الحسنة، التوّاقين إلى الحصول منها على الخبرات، بما يتعدّى تجذّراتهم الخاصّة. إنّ مثل تلك المقاربة تنكر مباشرة وبصراحة الافتراضات المسبقة الأساسيّة للعلمانيّة، والتي ينبغي على المجال العام بموجبها أن يرجِّح كفّة ذاك الذي، بطبيعته، سهل الوصول إلى الشعب كلّه، لا أن ينمّي قيماً خاصّة. غير أنّ ثمة إيضاحاً حول هذه النقطة يفرض نفسه: ليس من الوارد البتّة رفض تعدّد المنظورات والمقاربات؛ فهذه التعدّدية تشكّل في الواقع شرط أيّة مناقشة ديموقراطيّة. غير أنّ إدخال المناقشات المتعلّّقة برؤى مختلفة للعالم، والدينيّة منها بصفة خاصّة، إلى المجال العامّ للمدرسة، ليس هو ما يريده الأصوليّون؛ بل على العكس تماماً، إنّهم يطالبون بدروس منفصلة. مطالبة كهذه تفرض حتماً على الطلاب وضع (الانتماء القَبَليّ): ففي المحصّلة، سيتلقون تعليماً، وفقاً لأصولهم وانتماءاتهم، في مناهج مختلفة اختلافاً جذرياً. فكيف يمكن أن نتخيّل ولو للحظة، في مثل تلك الظروف، أنهم قادرون على العيش معاً خارج تعايش ظاهري مبنيّ على تسويات هشّةٍ، خاضعةٍ لعلاقات قوّة بين (طوائف)؟ والحال أنّ تنشئة المواطنين في المجتمعات المتعدّدة الثقافة تستلزم بالضرورة أنّهم قد تعلّموا العيش المشترك، وأدركوا أن ما يهمّ في ما يتجاوز الاعتقادات الخاصة بكلّ منهم هو الحصول على جوهر ما. إنّ الثقافة الفصاميّة لا تلد سوى صدمات نفسيّة: فهؤلاء الأفراد عينهم الذين كانوا سيربون بطريقة منفصلة، في غرابة متبادلة، هم الذين سيكون عليهم في وقت ما الجلوس، إن صحّ القول، حول طاولة والبحث معاً بصبر، كما يستدعي النموذج الديموقراطيّ الأكثر تطلّباً، عمّا تقتضيه، في هذه الحالة الخاصّة أو تلك، المصلحةُ العامة.الفصل الثانيالعلمانيّة في بلدان الاتّحاد الأوروبيّلم يتمّ تحديث البلدان الأوروبيّة، ولا سيّما في مجال العلاقات بين الكنائس والدولة، بطريقة واحدة. وتميّز فرانسواز شامبيون، في ما يتعلّق بصلات المجتمع بالدين، بين منهجين1: العلمنة laïcisation، والدنيوة sécularisation. ينجم الأوّل عن معركة القوى الاجتماعيّة (الليبراليّة) ضدّ كنيسة تُعتبر بالإجمال محافظة وتحاول التمسّك بمواقعها داخل الدولة؛ بينما يقوم الثاني، على العكس، على تلازم تحرير المجتمع والكنيسة. تَصلح العلمنة بشكل عامّ للبلدان ذات التقليد الكاثوليكيّ، (هناك حيث تعتبر الكنيسة.. أن لديها دعوة ربانيّة لأن تأخذ على عاتقها الحياة الاجتماعية برمّتها، وتضع نفسها كسلطة في مواجهة الدولة وفي تنافس معها).أمّا الدنيوة فهي الطابع الأكثر تمييزاً للبلدان البروتستانتيّة: (ثمة تغيير مترافق وتدريجيّ للدين ولمجالات الفعاليّة الاجتماعيّة المختلفة... الكنيسة البروتستانتيّة (في وضع الاحتكار أو الهيمنة) ليست سلطة مشابهة للكنيسة الكاثوليكيّة التي تقف وجهاً لوجه مع الدولة، بل هي مؤسّسة داخل الدولة، تشكّل رباطاً سياسيّاً، وتضطلع بمسؤوليّات خاصّة، في تبعيّة تتراوح بين القبول والرفض للسلطة السياسيّة.) ولكن لا بدّ من أن نضيف إلى هذا التمييز حالة البلدان المتعدّدة الطوائف، حيث توجد ملّتان تت
العلمانية
نشر في: 11 مارس, 2011: 04:47 م