سعد محمد رحيمفي ثورات الياسمين المتعاقبة، والسريعة افعالية، يلج الشباب العربي عصر ما بعد الحداثة من بابه الواسع، متجاوزاً، من غير أسف، الإفرازات والعقابيل السيئة للحداثة/ الحثالة (بتعبير برهان غليون) التي خلّفتها الفئات الحاكمة، والتي أمست عبئاً ثقيلاً على حركة الحياة والتقدم في هذا الجزء المنكوب من الكرة الأرضية. إنه جيل يدخل عصراً جديداً وهو ينظر بغضب إلى الماضي القريب حيث سادت مشروعات حداثة رثة وعقيمة؛ حداثة خاوية غير منتجة وبلا أفق واضح.
وفي هذا المقام، لا أرغب، بطبيعة الحال، في التحدث بإسهاب عن ماهية مصطلحي الحداثة وما بعد الحداثة كما يردان داخل السياق التاريخي ـ الثقافي الغربي. بل أحاول الاكتفاء بالإشارة إليهما من منظور تحوّلات واقع عربي معاصر له شروطه وظروفه ومعيقاته التاريخية. وملاحقة وتأشير وجوه هذه الظاهرة الجبارة المتمثلة بثورات الاحتجاج السلمية بسماتها التي لها صلة بروح عصرنا ما بعد الحداثي. بعدما ضاق الشباب، أولئك، ذرعاً بمشروعات التحديث البائسة المتبناة من قبل الأنظمة العربية، والتي فاقمت مشكلاتنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية والثقافية والوجودية بدل أن تقترح لها حلولاً معقولة وناجحة، حتى بدرجاتها الدنيا. وهم (أي جيل الشباب) بذلك يلقون بتلك المفاهيم كلها التي اقتاتت عليها النخب السياسية العربية في القرن العشرين في دائرة الاستفهام والشك والاختبار الحاسم الأخير. إنه جيل يعطي لوجوده معنى ولحياته قيمة ويعمل على استعادة كرامته المهدورة، ويريد الحرية بقوة لأنه أخيراً بات يعرف تماماً؛ لماذا الحرية وماذا يمكنه أن يصنع بها؟. وبهذا يجبر العالم على احترامه، ويرغم السلطات (جميعها)، للمرة الأولى، على أن تحسب له ألف حساب. وقد شرع بإسقاط ميتافيزيقيا السلطة الاستبدادية الفاشية بمقولاتها الخدّاعة، وطقوسها الاحتفالية المبتذلة، وثقلها الكريه الكاتم للأنفاس.قد يكون أول سمة ما بعد حداثية في المشهد الراهن هو تحولّ هذا المشهد إلى موضوع فرجة.. إلى صور تلفزيونية تُحيل المستور والمخفي إلى محكمة الفضائح، فيما هي تكشف، بالمقابل، نوازع الحياة والحرية عند شريحة واسعة من مجتمع صُوِّر غالباً على أنه راكد وغير فعال وغير مبدع وميؤوس منه. فهؤلاء الشباب لن يكتفوا بعد اليوم بتعزية أنفسهم وندب حظهم، وسينكرون ذلك الرضا بما أراد الحاكم أن يعتقدوه بأنه نصيبهم من الدنيا وعليهم قبوله قانعين خانعين. فنراهم يخرجون من إسار خَدَرهم، من سلبيتهم واستسلامهم لقدرهم، إلى فضاء الفعالية والاحتجاج والتغيير، ليس بالقلب واللسان وحدهما وإنما باليد كذلك.. إنهم يرفضون الصورة العابثة لحياتهم ولا جدواها المؤسسي وجدبها تحت خيمة الحاكم المستبد، راغبين في منح حياتهم المعنى والقوة والاتجاه الصحيح، مؤسسين لحضور جديد، ورافضين المسار الذي رسمته لهم الطبقة الحاكمة.. إنهم يعززون ماهية وجودهم بعدِّه منطوياً على قيمة إنسانية ومشروع تمدين ورؤية للمستقبل. إنه جيل يصنع التاريخ في الشوارع والساحات.. يُبرز ثقافة الشوارع الخلفية، وهذه خاصية ما بعد حداثية بامتياز.. يؤسس، في الحيّز السياسي/ الثقافي، للاختلاف، عبر أطروحة تمتح من الثقافة الدنيا؛ ثقافة المهمشين ليلقيها بشجاعة في وجه ثقافة السلطة المتعالية والفارغة، وثقافة البرج العاجي لنخب أخفقت في إنضاج ثقافة حداثة حقيقية.. يقدّم ثقافة الحرافيش بوجهها الآخر الحيوي والطازج لكن المسكوت عنه، والمفعم بقيم المحبة والغيرة والطيبة والتسامح والسخط والغضب والشرف.. إنها ثقافة يمكن أن تمنح المادة الأصلية الخام للحياة في حقل الإبداع والفكر الاجتماعي. وحتى المبتذل فيها والبذيء والساخر والجارح هو وسائل ممانعة أثبتت فعاليتها في نخر وتقويض أركان سلطات راسخة وإنْ ببطء.. جيل يسعى لقول الصدق حتى وإن كان هذا الصدق جارحاً لبعضهم ومؤذياً لبعضهم ومحيّراً لبعضهم وطارداً لبعضهم.. إنهم شباب، من عامة الناس، من الحواري والأحياء الفقيرة، يقولون، من غير تردد أو خوف، أشياء مباشرة بسيطة واضحة، وصادقة بإفراط. ما يحصل اليوم هو انتزاع الحقيقة من خلف الستار الكالح للطغم الحاكمة وفضح صورة الحاكم مثلما هي. فمع أول احتجاج جدّي وجدنا كيف فقد القذافي أعصابه وراح يدلي بخطب لا تليق إلا بالمسرح التهريجي.. إنه الامتحان المفاجئ الذي يكشف ضحالة ثقافة الحاكم العربي ومحدودية أفقه الذهني وبؤس بلاغته، ناهيك عن نزعته الدموية وكرهه شعبه. لقد كانت حركة الشباب بمثابة الإعلان الصارخ عن عري الحاكم وحقيقة قبحه.إن ثورة الشباب العربي تؤسس لرؤية جديدة للتاريخ، للذات، للثقافة السياسية، للواقع وللمستقبل.. رؤية تتغاير عن رؤى أولئك الذين فرضوا أنفسهم نخباً ويدّعون علم ما لا يعلمه الآخرون، ويفعلون ما يعتقدون إنه حقهم وامتيازهم على الآخرين, وبهذا فإن هذه الثورة تقترح عتبة جديدة للتاريخ.. تطيح أولاً بفكرة الطاعة العمياء لأولي الأمر لصالح فكرة الحرية المسؤولة. وبفكرة الرعية التابعة والمطيعة لصالح فكرة المواطنة كاملة الحقوق الإنسانية والعارفة بواجباتها. وبفكرة الاستئثار بالسلطة والمعلومات لصالح تداولهما الحر.بهذا يمتزج الشباب العربي بروح العصر.. بانفتاح الثقافات بعضها على بعض.. بالتواصل في العالم الافتراضي الذي يحوِّل بدأب عنيد عالم الواقع. جيل يفرض صوته من خلال إعلام يساهم هو في صناعته.. إن التقنيات الحديثة تساعد الشباب في كسر احتكار صنا
ثورة الشباب العربي:الدخول فـي عصر ما بعد الحداثة
نشر في: 11 مارس, 2011: 04:52 م