متابعة المدى
بعد هدوءٍ نسبي تشهده العاصمة السودانية الخرطوم منذ سيطرة الجيش الحكومي عليها في آذار وإخراج قوات الدعم السريع، عادت النازحة السودانية عفاف الطيب في حزيران الماضي بلهفة إلى منزلها الذي وجدته متفحِّمًا بلا نوافذ وطلاءٍ مقشَّر.
عفاف الطيب نزحت مع ابنها محمد وعائلتها ما لا يقل عن أربع مرات منذ اندلاع الحرب الأهلية في هذا البلد الواقع في شمال إفريقيا قبل أكثر من عامين. نزحوا في مناطق مختلفة من الخرطوم، لكن شيئًا لم يكن بقدر راحة منزلهم في حي القوز بالعاصمة.
تقول إنها تفتقد صور والديها وزوجها الراحل التي فقدتها عندما التهم الحريق منزلها في آذار، ومعها جميع مقتنياتها، وأكدت لوكالة «أسوشييتد برس» أن فقدان منزلها تركها غارقة في دموعٍ وحزنٍ عميق.
كانت العائلة قد نزحت أولًا إلى منطقة الهلالية بولاية الجزيرة، ولم يحملوا معهم سوى الملابس التي كانوا يرتدونها، حتى تقدَّمت قوات الدعم السريع في الولاية وأجبرتهم على العودة إلى حي القوز. وتروي الطيب أن مقاتلي الدعم السريع طردوها لاحقًا مع أسرتها، فاضطروا للفرار شرق الخرطوم نحو شندي، ثم إلى مدينة أم درمان. وقالت عن المقاتلين الذين اقتحموا منزلها: «كانوا غريبي المظهر، لا يمكن وصفهم، ومظهرهم مخيف».
الطيب وابنها من بين نحو 1.2 مليون شخص عادوا إلى السودان بين كانون الأول 2024 وأيار الماضي، وفق تقديرات منظمة الهجرة الدولية.
أما مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة فتقول إن أكثر من 12 مليون شخص نزحوا قسرًا منذ بدء الصراع في نيسان 2023، بينهم 3.2 مليون لجأوا إلى دولٍ مجاورة.
وقد أسفر النزاع عن مقتل أكثر من 40 ألف شخص، ودفع الملايين إلى حافة المجاعة، وأدَّى إلى تفشي عدة أوبئة.
كانت الخرطوم بؤرة القتال في بدايات الحرب، لكن الجيش أعلن استعادة العاصمة في وقت سابق من هذا العام، بما في ذلك مواقع مهمة مثل المطار والمباني الوزارية. وعاد قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إلى العاصمة في آذار للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب، حينما كان قد فرَّ مع حكومته العسكرية إلى مدينة بورتسودان على البحر الأحمر.
يقول مهند البلال، الشريك المؤسِّس لـ«مطبخ الخرطوم للمساعدات»، إن الناس في المناطق التي استعادها الجيش يعودون ليجدوا منازلهم مدمرة وأحياءهم محطمة، غالبًا بلا كهرباء ولا غذاء أو ماء أو خدمات، ومع ذلك يعودون لإعادة البناء. في مدينة الخرطوم دُمِّرت محطات الكهرباء، واقتُلعت الكابلات من الأرض.
ويضيف البلال بقوله: «في بعض أحياء مدينة الخرطوم حدث تفكيك كامل للبنية التحتية. حتى المستشفيات سُرقت منها الأسرَّة والأغطية».
وحسب بيانات مؤسسة رصد النزاعات المسلحة (ACLED)، فإن أكثر من 60 منشأة للمياه والكهرباء تضررت جزئيًا أو كليًا جراء الحرب، بينها 16 منشأة تخدم الخرطوم. وقال الطيب سعد، المتحدث باسم حكومة ولاية الخرطوم، إن 77 محطة تحويل كهرباء نُهبت ودُمِّرت، إلى جانب المولدات التي تغذِّي المناطق السكنية. وأكد أن «الخرطوم اتخذت خطوات جدية نحو الإصلاح رغم هذا الدمار لإعادة إعمار الولاية»، مشيرًا إلى أن المرحلة الأولى من إعادة البناء أوشكت على الاكتمال، وتركزت الجهود على رفع الجثث، وإزالة المتفجرات ومخلَّفات الحرب، وفتح الطرق المسدودة، وتعقيم الأحياء لمنع تفشي الأمراض.
وتركز السلطات حاليًا على استعادة الخدمات الأساسية، مثل الكهرباء، وضخ المياه، وإصلاح الشوارع والأرصفة والممرات والألواح الشمسية. وقال سعد إن الكهرباء ستعود قريبًا إلى أحياء بحري وشرق النيل والخرطوم.
وتقدِّر السلطات السودانية أن إعادة إعمار الخرطوم ستكلف مليارات الدولارات. وترى خلود خير، مديرة مؤسسة «كونفلونس» الاستشارية، أن العاصمة مرشحة لهجوم آخر في ظل استمرار الحرب، وهو ما سيحبط المانحين الدوليين الذين سيواجهون صعوبة في العثور على شريك حكومي موثوق إذا قرروا المساعدة في إعادة الإعمار.
وعندما عادت الطيب إلى منزلها الخالي والمتضرر، وجدت حتى الذهب الذي كانت قد دفنته تحت أرضية المنزل قد سُرق. ومع غياب قوات الدعم السريع عن حيهم، ما تزال العائلة تكابد غياب الماء والكهرباء والرعاية الطبية، وتعتمد على مياه الشرب باهظة الثمن وألواح شمسية لتوليد الطاقة.
وتسأل الطيب بمرارة: «لا توجد خدمات إطلاقًا في حي القوز. لماذا حرَّروا الخرطوم ونحن متروكون لأشهر بلا خدمات أساسية، أو على الأقل توفير بعضها أو تقديم بعض المساعدة؟»
أما جارها ناصر الأسد، فقد نزح خمس مرات منذ اندلاع الحرب، لكنه عاد إلى منزله في 26 تموز ليجده متضررًا جزئيًا بفعل القصف. ويكافح هو وعائلته لتأمين أساسيات الحياة.
وتوضح خير، مديرة مؤسسة «كونفلونس» الاستشارية، أن الخرطوم لم تستثمر بعد في إعادة تأهيلها، وأن سكان الأحياء تعاونوا لإعادة توصيل الكهرباء، وتركيب الألواح الشمسية، وربط حنفيات المياه بالآبار في بعض المناطق.
وأظهرت لقطات لوكالة «أسوشييتد برس» هذا الشهر أهالي الخرطوم من الشباب وهم يقومون بحملات تنظيف أحيائهم بأنفسهم. ظهر أحدهم وهو ينظف مدخل نادي القوز الاجتماعي والرياضي، بينما كان آخرون يرفعون النفايات المحترقة وأكوام الرماد. ويقول البلال، صاحب مطبخ الخرطوم، إن غياب البنية التحتية الأساسية يجعل من الصعب على الناس العثور على وظائف، لذا يعتمدون بشكل كبير على المطابخ الخيرية للحصول على الطعام. وأضاف: «الطعام باهظ بالنسبة لمعظم الناس، لكن حاليًا ينفق معظمهم الجزء الأكبر من دخلهم على الغذاء، لأنه قبل ذلك لم يكن متوفرًا أصلًا. لكنهم لا يحصلون على التوازن الغذائي الذي يحتاجونه. مع المطابخ الخيرية وما يستطيعون شراءه، يمكن السيطرة على الوضع الغذائي».
وفي ذروة النزاع، كانت فروع «مطبخ الخرطوم للمساعدات» عبر الولاية تقدِّم الطعام لحوالي 4 آلاف شخص يوميًا. ورغم أن العدد انخفض إلى النصف، إلا أن الكثيرين ما زالوا يعتمدون عليها للبقاء.
وترى خير أن العائدين إلى الخرطوم، رغم ارتياحهم من غياب قوات الدعم السريع، ما زالوا يواجهون انعدام الأمن، حيث تتواصل أحداث السطو وأنشطة التمييز العرقي والمصادرة غير القانونية للمنازل واحتلالها وسط غياب النظام المدني وسلطة القانون.
وأضافت بقولها: «غياب الخدمات وتفاقم الطابع العسكري هي بالذات وصفة مثالية لتجذر الجريمة المنظمة».










