د.فاطمة الثابت
نافذة على المستقبل…
هل نستطيع أن نرفع رؤوسنا لنرى العالم الآخر قبل أن تبتلعنا سرعة التحولات التقنية؟ هذا السؤال ليس رفاهية فكرية.. بل ضرورة وجودية في زمن يصفه الأستاذ الدكتور تحسين الشيخلي بأنه عصر النهضة الجديد. في محاضرته على منبر حوار التنوير، والموسومة بـ مقامات عصر النهضة الجديد، يضع الشيخلي أمامنا مشهداً غير مسبوق: ولادة حضارة جديدة لا تصنعها الحروب أو الاكتشافات الجغرافية أو الثورات الصناعية، بل تصوغها الخوارزميات وتعيد من خلالها تشكيل علاقتنا بالآلة وبأنفسنا.
يرى الشيخلي أن ما نعيشه اليوم ليس تراكماً معرفياً بطيئاً بل قفزة نوعية تفرض علينا إعادة التفكير في مفاهيم الديمقراطية، توزيع الثروة، العدالة الاجتماعية، وأخلاقيات المعرفة، بل وفي مصير الإنسان ذاته ولهذا قسم رؤيته إلى خمس مقامات:
الأولى نداء لتدارك لحظة التحول الكبرى، والثانية أن الذكاء الاصطناعي يكتب شهادة ميلاد النهضة الجديدة، والثالثة مقامة البرزخ التي تتأمل الأنطولوجيا الفائقة في زمن التحولات، والرابعة فلسفة التنوير في عصر الذكاء الاصطناعي، والخامسة سؤال مباشر: ماذا عنا نحن في العراق والعالم العربي؟ كيف يمكن أن نكون فاعلين لا مجرد متفرجين؟
هذه الأسئلة والهموم تجد صدى لها في ما طرحه هنري كيسنجر في كتابه عصر الذكاء الاصطناعي ومستقبلنا البشري، الذي كتبه بالاشتراك مع إيريك شميدت ودانيال هوتنلوشر يحذر كيسنجر من أن الذكاء الاصطناعي لا يغير فقط ما نعرفه، بل يغير كيف نعرف، أي أنه يعيد تشكيل عملية إنتاج المعرفة نفسها ويقول:
"إننا نواجه ظاهرة معرفية غير مسبوقة أنظمة قادرة على تقديم أجوبة دقيقة ومفيدة دون أن تستطيع أن تشرح منطقها، ومع ذلك سنضطر للاعتماد عليها" وهي حالة معرفة بلا تفسير تهدد أسس التفكير البشري النقدي.
يرى كيسنجر أن تجاهل هذه التحولات قد يضع مصير البشرية في أيدي الخوارزميات التي تُصمم في مختبرات مغلقة ويحذر قائلاً:
"تدريب الآلة على فهمنا، ثم الجلوس آملين أن تحترمنا، ليس استراتيجية ناجحة" ويرى الشيخلي في أن ترك مصيرنا يُرسم في أماكن أخرى يعني فقدان القدرة على أن نكون طرفاً فاعلاً في صياغة المستقبل.
و كيسنجر يذهب أبعد من ذلك متحدثاً عن البعد الوجودي للذكاء الاصطناعي فهو لا يراه مجرد أداة تقنية، بل قوة قد تغير هوية الإنسان وتعريفه لنفسه في رأيه، سيضطر البشر إلى إعادة تعريف مفاهيم مثل الحقيقة، والسلطة، والمسؤولية، لأن الآلة باتت تشارك في إنتاج المعنى نفسه، لا في نقله فقط. وهذا يتقاطع مع مقامة الشيخلي الرابعة حول إعادة صياغة فلسفة التنوير في زمن الآلة الذكية.
أما على المستوى العملي فيشدد كيسنجر على أن الاستجابة الحقيقية تتطلب بناء بنية معرفية وأخلاقية قادرة على توجيه الذكاء الاصطناعي قبل أن يوجهنا هو، أي أن تُبرمج الخوارزميات وفق قيم إنسانية واضحة، لا أن تُترك لمصالح السوق أو لهيمنة القوة التقنية وهنا بالضبط تكمن الإشكالية التي يطرحها الشيخلي في مقامة العراق والعالم العربي: كيف يمكن لمجتمعات تعاني من فجوة رقمية وأزمة وعي أن تلتحق بهذا العصر بوصفها صانعة للمعرفة، لا مجرد مستهلكة لها؟
في النهاية تقدم رؤية الشيخلي وكيسنجر معاً لوحة متكاملة: الشيخلي يضع خريطة طريق فكرية عبر مقامات النهضة الجديدة، وكيسنجر يقدم تحذيراً فلسفياً وأخلاقياً من المخاطر التي تنتظر من يتأخر عن الفعل كلاهما يدعو إلى وعي نقدي واستباقي، وإلى الانخراط في صياغة مستقبل الذكاء الاصطناعي، لا تركه ليُصاغ بعيداً عن قيمنا واحتياجاتنا.
فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة إنتاج أسرع، بل مشروع حضاري يعيد تعريف الإنسان والعالم والسؤال الذي يظل معلقاً، كما طرحه الشيخلي في المقامة الخامسة وكما ألمح إليه كيسنجر: هل سنكون فاعلين في هذه النهضة، أم شهوداً على عالم يُعاد تشكيله من دوننا؟










