إسماعيل نوري الربيعي
أصبحت السخرية، أكثر من مجرد عرف اجتماعي في العراق هذه الأيام. بعد أن تحولت إلى ظاهرة اجتماعية حافلة بحرارة البوح، والتعبير عن اللوعة والحرقة,، والأسى الممض،، واستراتيجيات البقاء العاطفية، وإشارات خفية عن النفسية الجماعية للبلاد. كل نكتة في الشارع العراقي، والسوق، والمقاهي، وحتى في البيئة الافتراضية، مليئة بإشارات إلى العجز السياسي، والهراء البيروقراطي، والفساد، والتنافس الطائفي، وعدم الاستقرار الاقتصادي. ظاهريًا، قد تُفسر هذه السخرية على أنها آلية للتكيف، وطريقة "للضحك رغم الألم". ومع ذلك، عند النظر إليها من خلال العدّة النظرية لــ يورغن هابرماس في المعرفة والمصلحة الإنسانية. باعتبار التمييز في قضايا مثل؛(المعرفة من أجل الفهم، والسيطرة، والتحرر). فإن السخرية هنا تكشف عن أزمات هيكلية أعمق في المجتمع العراقي. حيث يمثل الوضع العراقي حالة من الفوضى المتقاربة، باعتبار؛ تفكك الحكم، والمخاوف الأمنية المستمرة، وتدهور البيئة، والتفاوت الاقتصادي، وأزمة الثقة بالمؤسسات العامة. تُجسّد ثقافة السخرية السوداء نفسها كأعراض لهذه الأزمة، وكوسيلة للتفاوض على موقف العراق تجاهها. باستخدام نموذج هابرماس المعرفي، يُمكننا تحليل كيفية تمثيل احتياجات الناس في التواصل، واحتياجاتهم في السيطرة، واحتياجاتهم في التحرر، في هذه السخرية، وما إذا كانت الحالة العراقية الحالية تُشير إلى وجود أزمة اجتماعية، بالإضافة إلى عدم الاستقرار السياسي.
السخرية كمعرفة للفهم
تتجذر معرفة الفهم عند هابرماس، في اللغة والتواصل العقلاني المُوجّه نحو التفاهم المتبادل. في العراق، تُؤدي السخرية وظيفة تواصلية أساسية. لقد جعلت سنوات من الاستبداد والحرب والعقوبات، الخطاب السياسي المباشر في كثير من الأحيان شديد الخطورة. وهكذا، أصبحت السخرية عملة لغوية آمنة، تسمح بتقديم النقد بشكل غير مباشر، مما يُقلل من المواجهة، مع الحفاظ على التواصل. لا يزال الضحك في العراق اليوم، حافزًا للتضامن الاجتماعي بين المجتمعات المنقسمة. قد تتبادل الجماعات السنية والشيعية والكردية وغيرها من الجماعات الطائفية، نكاتًا سياسية تتجاوز الحدود الطائفية، مؤكدةً بصمت على المظالم المشتركة. سائقو سيارات الأجرة في بغداد الذين يسخرون من جنون المرور أو انقطاع الكهرباء، لا يثيرون السخرية بقدر ما يدعون الآخرين إلى منطقة تواصل عابرة، حيث يتم تبادل المظالم دون أن تتحول إلى نزاع سياسي.
هنا، السخرية تتشكل في إطار علم اجتماع تفسيري. فهي تحوّل الحقائق الاجتماعية الصعبة الفهم إلى قصص شيقة. نكتة عن سياسي "يزور" مستشفى لمجرد منحه بعض الدعاية، على سبيل المثال، تلخص مزاعم الفساد، ودعاية الحكومة، وخيبة الأمل الشعبية، كل ذلك في سطر واحد. بالنسبة لهابرماس، هذا شكل من أشكال المعرفة الموجهة نحو الفهم. فهو يبني فهمًا جماعيًا للأشياء ويعزز شعورًا جماعيًا بالإدراك. لكن وظيفة التواصل هشة. قد تُنشئ السخرية روابط غير واضحة، لكنها من غير المرجح أن تُفضي إلى حوارات هادفة أو حلول ملموسة. بل إنها تُصبح انعكاسًا ثقافيًا، حيث يبقى الفهم سطحيًا، وتُخفي الفطنة التحليل.
السخرية كمعرفة للسيطرة
النوع الثاني القائم على فكرة المعرفة للسيطرة. يهتم بالتنبؤ بالأنظمة والسيطرة والهيمنة عليها. في العراق، لا تُعتبر السخرية ثقافةً تصاعدية فحسب، بل آليات تأثير اجتماعي تنازلية. استخدم الفاعلون السياسيون ووسائل الإعلام، وحتى الميليشيات، السخرية كقوة ناعمة لتأطير القصة وخنق النقد. في وسائل الإعلام الحكومية أو الحزبية، تُمثل البرامج الساخرة، صمام أمان. فهي تسمح بانتقاد القصور الإداري أو الفساد البسيط، لكنها تتجنب تحدي النظام السياسي نفسه. وهذا يُضفي مظهرًا من حرية التعبير، مع الحفاظ على ترتيبات السلطة سليمة. وبالتالي، تُعتبر السخرية شكلًا من أشكال الهندسة الاجتماعية، حيث تُركز انتباه الجمهور على قضايا مُعينة، وتُخفي قضايا أخرى. تنتشر النكات على الإنترنت بسرعة البرق، وأحيانًا تُبدعها أحزاب سياسية بجدية للسيطرة على الرأي العام. على سبيل المثال، عندما تنكشف فضائح حقيقية، تُطلق نكات تُخفف من وطأة القضية، مُحوّلةً الغضب إلى سخرية. هذا التحول من الغضب إلى الضحك، يُبدد إمكانية الاحتجاج الجماعي، وهي آلية يُمكن فهمها كوسيلة تحكم فعّالة. بمصطلحات هابرماس، هذا هو استغلال السخرية، حيث تُصنع النكات وتُستخدم للتلاعب بالمشاعر العامة، وإثارة الحوار، ومنع الحراك الجماهيري. في حين أن فكاهة المواطنين في الشارع قد تنبع من إحباط حقيقي، فإن السخرية المؤسسية قد تكون أداة للهيمنة متخفية في صورة ترفيه.
السخرية كمعرفة للتحرر
الفئة الثالثة والمستندة إلى المعرفة للتحرر، والتي تتطلب فكرًا نقديًا، يهدف إلى تحرير الأفراد من القمع السياسي والاجتماعي والنفسي. في سياق العراق، تقاوم السخرية أحيانًا البقاء أو التلاعب، وتصبح أداة للنقد السياسي، قادرة على زعزعة السرديات المهيمنة. ظهرت هذه الإمكانية التحررية في مظاهرات تشرين 2019 (حركة تشرين). استخدم المتظاهرون لافتات وكتابات جدارية تحمل شعارات ساخرة لاذعة، تسخر من النخب السياسية والتدخل الأجنبي والطائفية. كانت هذه السخرية عارمة، لم تسخر فقط من سياسيين محددين، بل سخرت أيضًا من شرعية النظام السياسي ككل. بسخرية الحكام، جردهم المتظاهرون رمزيًا من هالة سلطتهم، جاعلةً منهم بشرًا في أشد حالات الوهن والضعف. هذه السخرية المحررة تفعل ذلك من خلال إزالة الغموض. تكشف عن تناقضات. مثل مسؤولين يتحدثون عن "السيادة" ويعيشون على المساعدات الخارجية، أو قادة يعظون عن الأخلاق ويتورطون في الفساد. يصبح ضحك الجمهور إعلانًا: (نحن نرى من خلالكم). لكن قوة السخرية التحريرية، تتوقف على ما إذا كانت تولّد وعيًا سياسيًا دائمًا أم لا. بالنسبة للعراق، على الرغم من أن فكاهة الاحتجاج حفّزت الاحتجاجات وتحدّت الأيديولوجيات المهيمنة، إلا أن تحولها الهيكلي نحو التغيير لم يتحقق بعد. يشير هذا إلى توتر بين السخرية التحررية. فبينما تستطيع استحضار الوعي النقدي، فإنها تذوب في توقٍ إلى لحظة مقاومة لم تُحدث تغييرًا منهجيًا.
هل المجتمع العراقي في أزمة؟
تُعدّ السخرية العراقية عرضًا وأداة تشخيصية، لقياس صحة المجتمع. من منظور علم الاجتماع، تزدهر السخرية في أوقات الأزمات لأنها تُفرّغ التوتر النفسي، الناتج عن عدم اليقين والخوف وخيبة الأمل. ومع ذلك، إذا كان المجتمع يُمارس النكات على حساب الخلل الوظيفي طوال الوقت، عندما تكون السخرية الخيار الوحيد لحل المظالم. فقد يُشير ذلك إلى انقطاع عميق في التواصل بين المواطنين ومؤسسات الحكم. باستخدام لغة هابرماس، فإن مساحة التواصل في العراق مُعطّلة. باعتبار أن الفهم مفقود: تُحدث النكات إجماعًا مؤقتًا حول الأمور، لكنها نادرًا ما تُثير نقاشًا عقلانيًا يُفضي إلى تغيير السياسات. أو التوقف عند حالة أن السيطرة موجودة: النخب تستغل السخرية لقمع المعارضة. أو التحرر في ومضات: ثقافة السخرية الاحتجاجية تدعو إلى التغيير، لكنها مكبوتة هيكليًا. في هذا الصدد، تعكس ثقافة السخرية العراقية بلدًا بين الاعتراف بأزمته ومضاعفة الجهود. السخرية هي في الوقت نفسه أحد أعراض الحياة، وآلية دفاعية تدعم الرضا عن النفس.
السخرية، والطريق إلى الأمام
تشير نظرية هابرماس إلى أن إنتاج المعرفة، يجب أن يكون لأغراض إنسانية، بوعي، لا بجهل. إسقاط على السخرية العراقية: إذا كانت الغاية تقوم على محاولة في الفهم؛ من المهم توثيق السخرية الشعبية ودراستها كسجل عام لمشاعر العراقيين. يمكن للباحثين والصحافة وضع هذه النكات في سياق أوسع للتاريخ العراقي، والهوية، مما يجعلها محركات للنقاش الجاد. أما إذا كان الهدف يسعى من أجل السيطرة؛ فمن الضروري تعزيز الشفافية بشأن أصل الإعلام الساخر. يمكن لبرامج التثقيف العام أن تساعد العراقيين على التمييز بين السخرية التي يبادر بها المواطنون والسخرية المصنّعة سياسيًا. وإذا كان التطلع من أجل التحرير؛ يمكن للمجتمع المدني توظيف السخرية ضمن تكتيكات أوسع نطاقًا للنشطاء - بحيث تُضاف السخرية إلى المقترحات والتنظيم والتثقيف السياسي، ولا تتبدد في تسلية عابرة.
لذا، فالسخرية ليست عدوًا للسياسة الجادة؛ بل قد تكون حليفًا لها، إذا تطورت من تعليق غير مترابط إلى فعل تواصلي منسق. ثقافة السخرية العراقية سلاح ذو حدين. إنها جسر للتفاهم، وسلاح للسيطرة، وفي بعض الأحيان وسيلة للحرية. ضمن نموذج هابرماس المعرفي، يتضح أن هذه الأدوار ليست منفصلة ولا متعارضة، بل تتداخل وتتنازع، عاكسةً التناقضات الأوسع في الحياة العراقية. هل المجتمع العراقي مأزوم؟ الإجابة هي نعم ولا. نعم، بمعنى أن السخرية تعيق التغطية على التوترات المستمرة، وانقطاع التواصل، وانعدام الثقة المؤسسية. لا، بمعنى أن السخرية تكشف أيضًا عن وجود روح جماعية ثابتة لا يمكن كبتها. تكمن المهمة الحقيقية في غرس قوة السخرية، كعامل بقاء، في مشروع واعٍ من؛ الفهم النقدي والممارسة التحررية. حينها فقط، وبعد ذلك فقط، يمكن لسخرية اليوم أن تصبح حجر الأساس لمستقبل عراقي أكثر حرية وعقلانية.










