نعيم عبد مهلهل
امام عالم الفنان محمود شوبير عليك أن تنتبه الى ضوء لون ما يؤثر على كل الحركات والمغزى داخل لوحته.. فهو نفسيا يحاول أن يسحبك الى تفكيره ومزاجه وما انتبهت اليه هو اللون الأحمر داخل فضاء اللوحة، وسايكولوجيا تشعر أن ألأحمر يمثل هاجسا كبيرا من ثقافة شوبير ومحاولته النضالية في صنع خصوصيته التي شاهدها الكثير واعتقد انها بحثا جماليا وخصوصةً في اعماله المتأخرة التي عَرفَ فيها شوبير أن يخلق لنا دهشة في المؤثر والأيحاء وصار يكتب قصة داخل اللوحة، وليس ليرينا ابهارا جمالياً لشخوص من يرسمهم، وخصوصا سيرته الهلالية والسحرية والمعاصرة لأبي الفوارس لعنترة بن شداد.
فأنا ازاء تاثير الاحمر في مشاهداتي أقف متأملا وبعمق لوحات محمود شوبير ولا أعرف تاريخاً ثابتاً لتلك الصبغة العطرة والمشعة ببهاء ابتسامة الأنثي وغضبها. وأعتقد أن هذا اللون به أبهار ييتعق بالحس الروحي للبشر والسير التأريخي للأحداث منذذ أن شج واحد من ابناء آدم رأس أخيه بحجر وقتله، واكتشفت ان شوبير يتفق معي ايضا عن هذا الأحمر آتٍ من أزل بعيد وأن مكتشفتهُ واحدة لم تنل رغبتها بسهولة، فربما كان الرجل عصي عليها فجربت كل مغريات الوصل لتصل الي هذا الاكتشاف ولتستطيع نيل المني من خلال شفتيها، هذا حس افتراضي لزمن من ازمنة الأحمر، اما عند شوبير فهو يرسمها في عصرنة غراميات عنترة لعبلة، يرسمها وهي تنظر بأغراء الى سيف إبن عمها، وكم من الدم بحمرته الداكنة سال من سيف فارسها المغوار في معارك الدفاع عن شرف القبيلة ومهر ابنة عمه المستحيل، ويقال أن اختلاط همس الغزل بالحمرة الداكنة أو الفاتحة يمنح السامع طاقة تخيل هائلة وبالتالي لا يملك شيئاً سوى أن يمد روحهُ ولسانهُ وعقلهُ ويبدأ مودته ليصطبغ هو بذلك الأحمر حيث يتحد وجود الكائنين في ذائقة الشوق والاشتياق والترابط. وهو فعل في طابعه القدسي والاجتماعي متوارثا ومقدسا وطبيعيا. وبعض منه خرج عن مألوف الحياة والتقليد المجتمعي فصارا فاحشا في أغراءته كما عند بعض ممثلات السينما ومارلين مونرو واحدة منهن، ولكن هذا الاحمر ومنه الكثير الذي لفت انتباهي في لوحات شوبير يمثل حاجة إنسانية كبيرة يصفها أحد الجنود الألمان في الحرب العالمية الثانية عندما حاصرهم ثلج ستالين غراد ستة اشهر دون أن يروا امرأة واحدة، انه غادر وحشيته عندما عاد الي وطنه وذهب الي أول حانة صادفته في الطريق، فقد كانت هناك واحدة، أحمر الشفاه الذي يضيء من فمهما أعادني الي طفولتي وبشريتي والى رحم أمي بعدما كنت مجرد حجر كبير لا يعرف سوي حشو المدفع بالبارود والتوسل الي يسوع لينجونا من هذه الحرب المدمرة.
مع تلك الخواطر الزمنية للأحمر فأنك تشعر ان الوقوف امام اللوحة " الشوبيرية " ايضا من شيء من الأحساس بالنجاة من بحر الأحمر الذي يقود الى الغرق دائما، عندما تبتعد مع اطياف جديدة يؤطرها الاحمر باللمعان الشهي من قطرة دم في نصل السيف واحمر مغر على شفاه عبلة وأيحاءات طفولية من اجل السلام والبراءة والحلم في دمى دببة شوبير القطبية وحتى تفاصيل الحدث المضطرب في بلاد الرسام (بابل وممالكها) تشعر مرات إنك حين تبحث عن استراحة لروحك في أغنية أو قصيدة فلا تجدها، تذهب الى الجدران لتفتش عن لوحة تكون بمثابة البدليل ومتى وجدتها ايقنت أن الرؤى كلمات وأن غابت يكون اللون وما يمنح من وجوده واحداث وتفاسير يمكنها ان تقترن في اغلبها بالحدث الناري وبالثورات وبالسيف والرصاصة والنشوة اليسارية وهي تبحث عن احلامها وحريتها.
هذا الأحمر في مشاعر النظر اليه تسكنه جماليات اخرى مخفية في الذاكرة أو شكل الوردة، ومرات يعبر الأحمر عن رغبة جارفة تسكن فينا غراما أو احتجاج أو رغبة بجعل صباح الحديقة عطرا للجوري. ومرات هذا الأحمر هو سيرة ذاتية لثوراتنا ورغباتها وثياب دمى طفولتنا أو هو كما يعبر عنه الفنان العراقي محمود شوبير باحمر العاطفة والبوح التراثي وتفسير ذهني ومعاصر لبطولة عنترة وما يقرأ لنا عن حكايته في المرويات الشعبية شفاهيا وكتابيا وليس نمط فارس بني عبس من نستطيع ان نفتش فيه عن الاحمر المثير بل هناك لوحات لمحمود شوبير حملت قصصا للعائلة والحلم الليلي لفقراء وكان الاحمر مرسوما على الدشاديش وصياح الديك في صباح بيوت الجيران وفقراء الشارع وتلاميذ المدرسة. لكنه وببراعة ما ربما هي من بعض هاجس ذكريات اللون معه يحرك لحظة ما داخل اللوحة هي لتحفيز ذاكرة المشاهد وهو يقف امام اللوحة وعليه ان يفسر أولا ما الذي يريد ان يقوله الأحمر لنا.
ومن يستعرض اعمال محمود شوبير ينتبه أنه كان في مطلع الألفية يميل الى دفعنا للبحث عن الهدوء داخل فوضى حركة الاشكال المرسومة في لوحته وكان الاحمر فيها دلالة واشارة على فهم حماسي لموقف ما يتخذه الفنان إزاء ما كان يحدث، وانه ليس طاغ داخل اللوحة لكنك تحسه من مكملات تفسير ما يريد شوبير أن يقصه لنا ويخبرنا فيه كجزء من رسالة سكنته في بواكير موهبته التي لازمته فيه هواجس التفكير البابلي والعراقي ليؤشر بالأحمر ما يريد ان يوصله بخواطر الوانه وقصائدها.
تكتيكيا الأحمر في لوحة شوبير هو مغزى وحدس يؤثر في لحظة الوقوف أمام اللوحة وتفسيرها برؤى متعددة الجوانب والايحاءات.
فذات مرة كتبت فصل من التاريخ الوطني لأحمر الشفاه ونشرته في كتاب، وكانت ردود الأفعال متباينة بين قبول فضيحة الفم وصناعته لنار الشهوة والفلسفة وخطابات الساسة، وبين من جعل الأمر مجوناً وفضيحة وتطاولاً علي الستر والمستور وعباءة شرقنا المدثرُ بتقاليد العشيرة وقبو المنزل ِوالخمار الأسود. بالرغم من أنني لم أتطاول سوى على ما كنت أعده مفضوحاً علينا الجهر فيه لاكتشاف الكثير من بواطن الجوف الذي ظل يعاني الكثير من ازدواجية الفكر والحياة والثقافة، لأن الاقتراب من المحظور لا يتطلب منا سماحاً من الآخرين بل أن طريقة الاقتحام والمجاهرة والكشف هي ما يجعل الوضوح للمستور رسالة إنسانية وشرفية تقود صاحبها الي امتلاك الشجاعة والقدرة علي أن يبدع ويمضي بعيداً في رسالته حتي لو أن هذا المستور عبارة عن خواطر سرية لرغبات أنسان أو حشرجات ليل أو تأوهات واحدة من دون بعل يناغمها همس الوسادة وصرير السرير.
ما ذكرته في هذا الكتاب " التاريخ الأسطوري لأحمر الشفاه ــ دار نينوى للطباعة والنشر في دمشق " لم يرسمه شوبير بذات المعاني ولكن الكثير من رؤيا كتاباتي حول الاحمر تجد لها مكانا في لوحاته، وتصبح المزاوجه بينهما تفسيرا فلسفيا وجماليا لدلالة الاحمر في حياتنا (احلامنا وذكرياتنا وثوراتنا وغرامياتنا) لتشعر ان عبلة وسيف عنترة والدببة المسكونة برغبة من الفنان لعودة العالم الى طفولته وبرائته الكهنوتية الاولى أمرا تتمنى لوحات شوبير ان تحققه، وعليه كان أحمر الشفاه بالنسبة لرؤاي هو احمر لباطن ما في الذات البشرية وأقصد الأحمر المتقد بالثورة ضد الجوع والظلم والحاجة الى الأنوثة المعطرة لا تلك الأنوثة التي تقضي كل حياتها مع روث البقر والجواميس. فلقد صنع الله المرأة لتكون الأقرب الي عطر الوردة، وخلقها لتنتج وتمنحنا طاقة لنمضي ونبتكر ونحيا، ومن بين رؤى هذا الحسن الزهري يأتي احمر الشفاه ليرنا نافذة الإطلالة الساحرة لواحدة تهمس وتُقبل وتدعوك الي غرام المصاهرة أو العشق بين ما يحلله الله كزواج مقدس وبين علاقة عاشق لعشيقته أو عابر سبيل مع سرير أوتيل أو أي شكل من أشكال الغرام الذي تخفيه ريشة محمود شوبير وتحركه داخل إطر خشبية ويعلق على الجدران مباحا للمشاهدة والتفسير والقراءات المختلفة.
هذا الأحمر بطقوسه في لوحات شوبير حتى قبل ان يكون دببة تحمل المغزى والقصد في عالم يحتاج الى دببة الالعاب وليس الى دببة جائعة ونهمة ومفترسة.
الفنان محمود شوبير مع الأحمر يكتب قصيدته من خلال ريشة أحترافية ــ أكاديمية ــ واعية.
الفنان محمود شوبير.. مقطع من فنتازيا الأحمر

نشر في: 25 أغسطس, 2025: 12:03 ص









