TOP

جريدة المدى > عام > قصيدة النثر قدر الشعر الحقيقيّ وضرورته المعاصرة .. وهي التي جردت الشعر من لزومياته الشكلية

قصيدة النثر قدر الشعر الحقيقيّ وضرورته المعاصرة .. وهي التي جردت الشعر من لزومياته الشكلية

علاء المفرجي ما الذي تحبه في قصيدة النثر: الإيجاز أم التوهج. . يرى البعض أنها فن قائم بذاته، متحرر من الوزن والقافية، ويعتمد على الصور الشعرية والإيحاء والبناء الداخلي، بينما يعتبرها آخرون مجرد كلام منثور يخلو من عناصر الشعر الأساسية كالوزن والإيقاع، بل ويرون أنها تمثل خيانة للشعر العربي التقليدي. فقصيدة النثر" ليست مجرد نصّ خالٍ من الوزن والقافية، بل لحظة اشتعالٍ لغوي وحسي. إنها نثرٌ يلمع في داخلك، يأخذك إلى عوالم من الصور غير المقيدة والأفكار الحرة. في هذا الاستطلاع، نود اكتشاف ما لمس في الشاعر رسمها الداخلي، هل تأثر بكثافة صورها؟ بجمال لغتها؟ أم بإحساسها بالغموض والعمق؟ هل كان لقصيدة النثر ضرورات معاصرة؟ هل يحتم هذا ان يجهل كتّابها أسس البلاغة العربية وجمال اللغة؟ وهل هو جهل الكثير من كتّاب قصيدة النثر بأسس البلاغة العربية وجماليات اللغة؟ حاتم الصكر: الإجراءات النقدية اقتربت كثيراً من نصية قصيدة النثر وتحليلها وبيان مشكلاتها ثمة مشكلة في مصطلحها وتداعياته ما أدى لفهم قاصر لنثريتها، وميوعة إيقاعها وعدم تعيُّنه كبديل موسيقي، وزحْف التقليد إلى نماذجها، وكذلك مشكلة تلقيها من القارئ بأفق تلقي القصيدة الموزونة وأعرافها دون أن يعي جماياتها الجديدة. لكنها مادامت وليداً، فثمة مشاكل متوقعة في الولادة والنمو، مرت بها الأنواع الشعرية كلها في أطوار تحديثها. الإجراءات النقدية اقتربت كثيراً من نصية قصيدة النثر وتحليلها وبيان مشكلاتها وتعددت مكتبتها النظرية وتنوعت بين مؤلَّف ومترجَم، شخصياً أرى أنها الآن في طور الفرز الجيلي والأسلوبي وصارت لها تيارات ومناخات كتابة ومقترحات شكلية تفتح أفق كتابتها وتُوسِّعه، وصولاً إلى تعيُّنات نقدية وإجراءات قراءة أرى أنها الأكثر إلحاحاً هذه الفترة. الشُحّ والوفرة مقياسان زئبقيان. معارض الكتب والصفحات الثقافية والمواقع تكتظ بالدراسات النقدية إذا شئنا اعتماد قياس الكم، والمجلات تخصص ملفات عن النقد بتنويعاته الكثيرة: نقد النقد، النقد الثقافي، النقد البيئي، النسوية، قصيدة النثر، مناسبات واستعادات قراءةٍ لمنجز الشعراء، فضلاً عن مساهمات النقد الأكاديمي. لا غرابة أن نجد شاعراً وكاتباً حداثياً كأدونيس يبحث عن جذور لقصيدة النثر ليبعد عنها الهجنة أو الوفادة، فرآها في النثر الإشراقي للصوفية، كما بحثت نازك الملائكة من قبل عن جذر حداثي لشعرالرواد فوجدت البند. خزعل الماجدي: الأساس الأول في قصيدة النثر أن تكون شعراً وليس خاطرة أو نثراً الأساس الأول في قصيدة النثر أن تكون شعراً وليس خاطرة أو نثراً، قصيدة النثر تعني بالضبط (كتابة الشعر عن طريق النثر) ولا تعني مطلقاً النثر والخواطر والنثر المركز وكلام المشاعر والعواطف فقط، الأمر في غاية الدقة، لكن الذين استسهلوها اعتقدوا أنها صنف نثر وخواطر عادية، وهذا هو الذي ولد عندك تلك الشكوك، الأسس النظرية والعملية لقصيدة النثر قائمة في قصائد الشعراء الكبار الذين أسسوها سواء أكانوا عرباً أم أجانب، وعند كبار من نظّر لها أمثال سوزان برنارد، والمبدأ البسيط لها أنها قصيدة مكثفة تعتني بالمضمون أكثر من عنايتها بالشكل واللغة وتركز على المعنى، المعنى الخفي الموارب المدهش. قصيدة النثر قدر الشعر الحقيقيّ وضرورته المعاصرة ولابد منها، فهي التي جردت الشعر من لزومياته الشكلية ووضعته عارياً إلا من كونه شعراً، فهي تمثل حقيقة الشعر، وبطبيعة الحال يجب أن تكون مستلزمات من يكتبها الإلمام باللغة العربية وفتنتها المعنوية والبلاغية والأسلوبية، ولا يجوز التهاون مطلقاً في نحوها وقواعدها، ولا يصح أبداً أن يكون أداؤها ركيكاً، لكن يمكن أن يكون كلام صحافة أو أبسط من ذلك شرط أن تتفجر فيه الشعرية في كل سطر، قصيدة النثر تخلع عن جسدها البلاغة العربية الطنّانة والرنّانة وتتجه نحو لغة غير متكلفة، ولذلك فهي تمس لغة الشارع والصحافة والطفل والحياة اليومية، لهذا خلقت قصيدة النثر، لكي تغادر بلاط الملوك والأمراء والزعماء وخطابات رجال الدين وتكون أقرب إلى لغة الناسن هذا أصل بدايتها. إبراهيم البهرزي: يجب ان تعوّض (الشعر) الذي سلب منه الايقاع مزية ً ما يعوضه عن هذا الفقدان في الحقيقة يا صديقي لو تتذكر فإنني كتبت شعر التفعيلة قبل قصيدة النثر، لكن وكما قلت لك في اجابة سابقة لم اضم شيئا منها عندما أصدرت ديواني الأول بسبب ضياع اغلبها، فقط ومنذ نهاية الثمانينات تحولت لكتابة النصوص النثرية ولو أردت رأيي في طبيعة كتابة النمطين لقلت لك ان كتابة قصيدة النثر اكثر صعوبة على الشاعر من كتابة النصوص الموزونة اقول هذا من تجربتي، قصيدة النثر جنس شديد الصعوبة، لأنك أولا يجب ان تعوّض (الشعر) الذي سلب منه الايقاع مزية ً ما تعوضه عن هذا الفقدان، تحتاج قصيدة النثر لافكار كبيرة وأصيلة كي توقع بالمتلقي في شرك غوايتها، وتحتاج لغة غير نمطية وأسلوب مبتكر يصبح شيئا فشيئا علامة الشاعر وتوقيعه الفرد، وكل هذه المقومات تحتاج لتجربة حياتية وثقافية متفردة، لذلك اجد ان قصيدة النثر المكتوبة من قبل شاعر خَبرَ كتابة شعر التفعيلة والقصيدة العمودية، أيضا هي اكثر رصانة من تلك القصيدة التي يكتبها شاعر لم يمارس غير كتابة قصيدة النثر، عليك ان تستفيد من أمراض قصيدة التفعيلة والعمود لتمتلك المناعة الضرورية عند كتابة قصيدة النثر، المناعة ضد الإسهاب والمناعة ضد التكرار والمناعة ضد التراكيب اللغوية الجاهزة والمناعة ضد الفخامة البلاغية، كل تلك أشياء لا تحتملها قصيدة النثر، فهي كينونة حسّاسة بشكل مرضي لا تحتمل أيّا من اعباء النظم الشعري السائد، في الحقيقة هناك إغواء عالمي للتفاهة، كل بيانات العولمة هي دعوات مستترة لاجل شيوع التفاهة، ووسائل الاتصال الحديثة هي رغم كل حسناتها وإيجابياتها وسيلة أساسية لإشاعة التفاهة، سواء في الشعر او الفنون التشكيلية او المرئية او المسموعة، وعندما تتراكم التفاهة يضيع مفهوم القيمة والمعيار، وهذا ما تعانيه قصيدة النثر اليوم، التراكم والرثاثة بسبب سهولة النشر واستسهال عملية الكتابة والتواطؤ الخبيث مع من صاروا يحملون صفة الناقد، اصبح الكثير من كتبة النقد اشبه بالقوادين الذين يعلون شأن قحاب رديئات اسمهن قصائد النثر، كما هو حال مؤسسات الاعلان مع الفنانين والفنانات، كما هو حال الملاهي الليلية مع الطرب والمطربين كما هو حال المواقع الزرقاء مع تجارة الجنس، وكأن ّهناك استراتيجية عالمية لعقيدة ٍ فحواها القوادة، وقصيدة النثر صبية بريئة، تنال هي الاخرى نصيبها من الفساد في أسواق التفاهة التي شرعت ابوابها العولمة والنظام العالمي الجديد. أديب كمال الدين: هيمنة قصيدة النثر على الساحة الشعرية أصبحت مسألةً مؤكّدةً لا تقبل النقاش للأسف، فإنّ ما ذكرته صحيح عن جهل الكثير من كتّاب قصيدة النثر بأسس البلاغة العربية وجماليات اللغة، لكن هيمنة قصيدة النثر على الساحة الشعرية أصبحت مسألةً مؤكّدةً لا تقبل النقاش بسبب السيل الجارف من القصائد والمجاميع الشعرية التي تُكتب وتُنشر من خلالها في مختلف البلدان العربية، وهذه الهيمنة الشديدة المتحققة في الوقت الحاضر تؤكّد الهيمنة المستقبلية بالطبع، إضافة إلى ما تمتلكه قصيدة النثر نفسها من أسباب فنية تعينها بقوّة على البقاء حيّة كالتحرّر من الوزن والقافية، والمرونة، والومضيّة، والتداخل مع الأجناس الأخرى. وبعيداً عن الشكل الشعري المستخدم، سواءً أكان قصيدة عمودية او تفعيلة أو قصيدة نثر، فإنني أرى الشعر اكتشافاً لإعماق الحياة في ومضة روحية وفنية نادرة وبأقل عدد من الكلمات. فإذا طبّقنا هذا "التعريف" سنجد أن في سيل قصيدة النثر الهائل المنشور يومياً غَلَبة واضحة للقصائد الضحلة المرتبكة الفارغة!، وقد زاد من فداحة الأمر أنّ قصيدة النثر تفتقد إلى الوزن والقافية فتصوّر الكثير من كتّابها أنّها يمكن أن تكون أيّ شيء! إذن، هناك أزمة واضحة في الحصول على الشعر الحقيقي المتفوق المبدع، لأنّ الكثير من الشعراء والشاعرات في بلداننا العربية يفتقدون إلى الفهم الدقيق لمسألة بُنية القصيدة، ولمسألة النمو العضوي، والاقتصاد في اللغة، والقاموس الشخصي للشاعر، كما يعانون من الخواء الروحي والإنساني أحياناً. الكثير منهم لا يملكون تجارب روحية أو إنسانية ذات شأن أو عمق بحيث تستحق أن تُكتب أو ترى النور. وتجد جملهم الشعرية وصورهم الفنية مليئة بالهذيان حتى تحوّلت قصائدهم إلى ما يشبه ركّاب عربة القطار الذين لا يعرف بعضهم بعضاً، ولا يجمعهم أي جامع سوى هذه العربة! يحيى البطاط: ببساطة، قصيدة النثر في أغلب نماذجها لا تصلح للإلقاء على حشد من المستمعين لا أتذكر أين وفي أي سياق قلت أو كتبت هذه العبارة التي جاء في مضمونها إن "قصيدة فاشلة اجتماعيا وجماهيريا بالمقارنة مع ما سبقها من أشكال شعرية"، لكن لا بأس هذه الفكرة صحيحة إلى حد كبير، نعم قصيدة النثر فاشلة اجتماعيا وجماهيريا، مقتل قصيدة النثر هو أن تقف في حشد من الناس لتقرأها أمامهم بطريقة الشعراء الكلاسيكيين، قصيدة النثر لا تحتاج إلى جمهور، بل إلى قراء لأنها ببساطة في أغلب نماذجها لا تصلح للإلقاء على حشد من المستمعين المتلهفين إلى ما يمكن أسميه الطرب الشعري، إنها قصيدة لا تليق بأنماط التلقي المتعارف عليها في الشعرية العربية، من إلقاء وغناء وترنم وربما صراخ، قصيدة النثر تقترح شعرية تقترب من الصمت أو الهمس المحفز للتأمل والتبصر والكشف. حسنا إذا كانت هذه العبارة قد صدرت عني فهي لا تنطوي على هجاء لقصيدة النثر، بل تعبر عن دعوة لتلقيها بشكل مختلف ومغاير عن الطريقة التي نتلقى بها القصيدة العربية التقليدية، وهذا ما اشتغل عليه الناقد الكبير حاتم الصكر في كتابه الثمرة المحرمة. عبد الرزاق الربيعي: مصطلح قصيدة النثر يبقى اشكاليا، واكتسب الشرعية بعد أن أصبح عرفا تكتسب أية تجربة فرادتها من قوّة الموهبة، والتأسيس الصحيح، وصدق وثراء التجربة، وأيّ خلل في واحد من هذه الأركان قد يشوّه التجربة، لذا، من المهم أن يضبط الشاعر الأوزان، والنحو واللغة، فجواز المرور لذلك كتابة القصيدة العموديّة، يرى أدونيس بما معناه، أن الحداثة تتطلب استيعاب اللغة في تحولاتها التراثية والمعاصرة، ويقول الرسّام العالمي ماتيس" كنت أجبر تلاميذي على الدراسة الاكاديمية حتى لا يجدوا في أسلوبي السهولة الفنية فيتخلون عما مطلوب منهم من جهد وتدريب"، وعندما بدأت مع قصيدة التفعيلة بتأثير المحيط الذي نشأت به، وكان سيابيّا بامتياز، فقطعت شوطا، لكن بعد قراءات مكثّفة، ومراجعات، رأيت من الضروري العودة لنقطة البداية، ودراسة البحور الخليلية، وكتابة الشعر العمودي، ففعلت كلّ ذلك من أجل أن أستكمل الشروط الواجبة لكتابة قصيدة النثر، من هنا فقصيدة النثر التي أكتبها ولدت ولادة طبيعية، فجاءت عن دراية، لا عن قصور في أدوات التعبير. يقول الناقد الكبير حاتم الصكر: "يبدو أن الولادة كانت متعسرة لقصيدة النثر، حيث رفضها التقليديون، وإشكالاته تبدأ من التسمية ولا تنتهي بالقصور في الاجراءات النقدية، فظلت تراوح بين الشعر والنثر؟" ما رأيك؟ بالتأكيد، أن مصطلح قصيدة النثر يبقى اشكاليا، إلّا أنه اكتسب الشرعية بعد أن أصبح عرفا وبدأت تتبناه المؤسسات الثقافية والأكاديمية وقد سجلت رسائل وأطاريح في قصيدة النثر، وهي الآن هي السائدة، على الرغم أن هناك عودة لشعر الشطرين بشكل ما، إلّا أن الغريب أن قصيدة التفعيلة قد انحسرت إلى حد كبير، وهذا يحتاج وقفة من النقاد لتفسير ذلك، ومازالت قصيدة النثر نبتة شيطانية في ثقافتنا العربية، فقصيدة الشطرين متجذّره، ولها تاريخ طويل، ومنجز ضخم، في تراثنا، بينما عمر قصيدة النثر، قصير قياسا لعمر قصيدة الشطرين. هاتف جنابي: قصيدة النثر ممارسة سبقنا فيها شعراء العالم بثلاثة قرون أمارس "قصيدة النثر" قليلا مقارنة بممارسة القصيدة الحرة التي أميل إليها في العقود الأربعة الأخيرة. في أواخر الثمانينات والتسعينات كتبت عن الفرق بين قصيدة التفعيلة والقصيدة الحرة وقصيدة النثر والنص المفتوح وعرضت وجهة نظري أيضا على طلابي في جامعتي وارسو وتيزي – وزو، ما يميز "قصيدة النثر" ليس افتقادها إلى الوزن فحسب، بل شكلها وأسلوب كتابتها. ينبغي أن تكتب على شاكلة النص النثري وألا تزيد عن صفحة أو صفحتين مع التخلي عن البلاغة والاستفادة من بعض أدوات النثر كالسرد والوصف وحتى الحكاية. أما القصيدة الحرة التي أمارسها أيضا، فهي ليست كما فهمتها (نازك الملائكة خطأ). إنها في شعري تقوم على توليفة من حضور التفعيلة التلقائي وغيابها، توليف بين الإيقاع والشكل والمعنى. إذن، فهي هندسة معمارية توظف هارمونية إيقاعية متعددة الأوجه والمستويات، تكتب بطريقة قصيدة التفعيلة، لا النثر، وأدعي أنها خاصتي. هناك فيض و"إسهال" في كتابة الشعر الرديء، ومجازر لغوية ونحوية مقززة ترتكب. لدي قاعدة تقول: ينبغي تغليب ما هو شعري على ما هو نثري داخل النص، وإلا فهو نثر. لا ضير في ممارسة النثر من قبل الشاعر. تأخر العراق في هذا المضمار جدا. هذه ممارسة سبقنا فيها شعراء العالم بثلاثة قرون. شخصيا بدأت بممارسة القصيدة والقصة القصيرة في الوقت نفسه. من خلال تجربتي الشخصية وسفري ومتابعتي لاحظت أن عدد الشعراء لم ينحسر في العالم. نشرت مختارات شعرية في أميركا لفيسوافا شيمبورسكا قبل نيلها جائزة نوبل، ترجمها الشاعر والناقد ستانيسواف بارانتشاك وقد طبع منها مائة وعشرون ألف نسخة! مع ذلك، يبقى الشعر محدود الانتشار بحكم طبيعته، الشعر الحقيقي لا يمكن أن يكون جماهيريا. غريب إسكندر: قصيدة النثر قادرة على استضافة أشكال وثيمات كانت "مُحرّمة" شعرياً ما يخص قصيدة النثر العربية، فتنبغي الإشارة، عموماً، إلى قدرة هذه القصيدة الجديدة على استضافة أشكال وثيمات كانت تبدو غير "فنية" بل "مُحرّمة" شعرياً، وتوظيفها توظيفاً جمالياً جديداً. ويجب ألا ننسى بأنَّ قصيدة النثر التي يكتبها الشعراء العرب، بما فيهم العراقيون، هي قصيدة عربية وإن استعارت شكلها أولاً من الشعرية الغربية إلا أنها طورته وطوعته بما يلائم الثقافة العربية وهذا ما حصل تماماً مع الشعر الحر الذي وإن كُتب بتقنيات شعرية أجنبية، إلّا أنَّ "روح" القصيدة يظل عربياً، وهذا الأمر لا يتعارض، بالطبع، مع انفتاح القصيدة؛ أي قصيدة في بعدها الإنساني العام. والمفروض أنَّ هؤلاء المجددين على دراية كبيرة بتراثهم الشعري. وإلّا لا أفهم كيف يمكن لشاعر أن "يجدد" وهو ضعيف الصلة بتراثه وثقافته ولغته؟! يجدد ماذا؟! أنا أفهم التجديد بوصفه اختراقاً وتغييراً لما هو مألوف، وهذه يعني أنَّكَ تعرف "الطرق" القديمة حتّى ولو لم تكن قد "سلكتها". وفيما يخص شعراء التسعينيات فأعتقد أنَّ جلّهم قد درس الأدب العربي أكاديمياً وهذا يعني أنك تدرس التراث الشعري العربي القديم ومدارس الشعر الحديثة بما فيها الأجنبية وتتعلم تقنيات الشعر ونقده. وأعتقد إنّ النخبة التسعينية، إذا جاز التعبير، هي آخر جماعة عراقية انشغلت انشغالاً تاماً بالحداثة الشعرية؛ وأعني بذلك أنَّ كلَّ شعرائها كان يكتب قصيدة النثر تقريباً. وقد اختلفت أسلوبياً وثيماتياً عن سابقاتها. إذ طغت على نصوص مَن سبقهم "التجريد اللغوي" أكثر من غيره، مع أنَ الواقع العراقي في الثمانينات كان ضاغطاً بشدة حيث الحرب العراقية-الإيرانية وويلاتها والمشاكل السياسية الأخرى. بينما استجاب شعراء التسعينيات أكثر لحيواتهم "الواقعية"، ولكن في أطار تقنية حديثة، لا "منبرية" كما تسود الآن في المشهد الشعري العراقي وكذلك العربي. هذه "المنبرية" لا علاقة لها بالشعر الكلاسيكي الذي درسته ودرّسته وكلنا تعلمنا من نماذجه الخلاقة قديماً وحديثاً؛ إنّها أبعد من ذلك ولها "أجندة" في "تعطيل" الشعر بوصفه مشروعاً جمالياً ورحلة يصنعها الشاعر والقارئ. فالمنبرية تعطل الركن الثاني "القارئ" من هذه الرحلة وتحوله الى مجرد مستمع منفعل لا مشاركاً فاعلاً وايجابياً. إنّها أصدق مثال على "الدكتاتورية" حيث الرسالة الشعرية تكون باتجاه واحد فقط يحدده الشاعر، وما على المتلقي إلا القبول به، بل وبتمجيده بعبارات الطاعة العمياء! على عكس القصيدة الحديثة التي تمنح "ديمقراطيتها" ركنها الثاني (القارئ) القبول أو الرفض أو التعديل، وهذا هو عين المشاركة "الديمقراطية". عدنان الصائغ: من يدري كيف سيكون شكل القصيدة وموضوعاتها بعد مائة أو ألف عام الشِعر مغامرة وثورة وتغيير في شكل العالم، فما بالك في شكل القصيدة. فمنذ فجر الإنسانية والقصيدة في تحوّلات كبرى من التراتيل في المعابد وأغاني الصيد والحقل، إلى الملاحم الكبرى، الى الشعر العمودي (بموضوعات الطلل والنسيب والحماسة والهجاء والمديح والخ)، إلى الموشحات، إلى السونيتات والتروبادور، والبند والدوبيت، والكان كان، وصولاً الى قصيدة التفعيلة والقصيدة المدورة وقصيدة النثر والنصّ المفتوح، والهايكو، والتاناكا اليابانية، والكوشيه واللوشيه والتشي الصينية، وأغاني التانغ والتنترا والبوران الهندية، والموشحات والدوبيت واشراقات المتصوّفة، القصيدة الميكانيكية، والكونكريتية، والتماعات السريالية، وقصيدة البياض إلى إلى إلى.. من يدري أو من يمكنه أن يتصوّر كيف سيكون شكل القصيدة وكذا موضوعاتها بعد مائة عام أو ألف. لا ثبات في الشِعر، مبنىً ومعنىً ولحنا، وعلى الشاعر دائماً أن يجدد في شكله وايقاعاته وموضوعاته، لا لمجرد التغيير بل لضروراتٍ ومخاضاتٍ وتحولاتٍ فنيةٍ وابداعيةٍ ملحّةٍ يفرضها العصر والموضوع وأمور أخرى. بالنسبة لي أستطيعُ القولَ إنني جربتُ الأنواع الشعرية: من القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة، إلى القصيدة المدوّرة، إلى النصّ المفتوح، إلى قصيدة النثر، إلى القصيدة الطويلة جداً (والتي تربو على 550 صفحة) إلى النصوص القصيرة جداً: التكوينات والتوقيعات (والتي لا تتجاوز 6 كلمات، أو سطرين).

نشر في: 26 أغسطس, 2025: 12:36 ص

علاء المفرجي
ما الذي تحبه في قصيدة النثر: الإيجاز أم التوهج. . يرى البعض أنها فن قائم بذاته، متحرر من الوزن والقافية، ويعتمد على الصور الشعرية والإيحاء والبناء الداخلي، بينما يعتبرها آخرون مجرد كلام منثور يخلو من عناصر الشعر الأساسية كالوزن والإيقاع، بل ويرون أنها تمثل خيانة للشعر العربي التقليدي.
فقصيدة النثر" ليست مجرد نصّ خالٍ من الوزن والقافية، بل لحظة اشتعالٍ لغوي وحسي. إنها نثرٌ يلمع في داخلك، يأخذك إلى عوالم من الصور غير المقيدة والأفكار الحرة.
في هذا الاستطلاع، نود اكتشاف ما لمس في الشاعر رسمها الداخلي، هل تأثر بكثافة صورها؟ بجمال لغتها؟ أم بإحساسها بالغموض والعمق؟ هل كان لقصيدة النثر ضرورات معاصرة؟ هل يحتم هذا ان يجهل كتّابها أسس البلاغة العربية وجمال اللغة؟ وهل هو جهل الكثير من كتّاب قصيدة النثر بأسس البلاغة العربية وجماليات اللغة؟
حاتم الصكر: الإجراءات النقدية اقتربت كثيراً من نصية قصيدة النثر وتحليلها وبيان مشكلاتها
ثمة مشكلة في مصطلحها وتداعياته ما أدى لفهم قاصر لنثريتها، وميوعة إيقاعها وعدم تعيُّنه كبديل موسيقي، وزحْف التقليد إلى نماذجها، وكذلك مشكلة تلقيها من القارئ بأفق تلقي القصيدة الموزونة وأعرافها دون أن يعي جماياتها الجديدة. لكنها مادامت وليداً، فثمة مشاكل متوقعة في الولادة والنمو، مرت بها الأنواع الشعرية كلها في أطوار تحديثها.
الإجراءات النقدية اقتربت كثيراً من نصية قصيدة النثر وتحليلها وبيان مشكلاتها وتعددت مكتبتها النظرية وتنوعت بين مؤلَّف ومترجَم، شخصياً أرى أنها الآن في طور الفرز الجيلي والأسلوبي وصارت لها تيارات ومناخات كتابة ومقترحات شكلية تفتح أفق كتابتها وتُوسِّعه، وصولاً إلى تعيُّنات نقدية وإجراءات قراءة أرى أنها الأكثر إلحاحاً هذه الفترة.
الشُحّ والوفرة مقياسان زئبقيان. معارض الكتب والصفحات الثقافية والمواقع تكتظ بالدراسات النقدية إذا شئنا اعتماد قياس الكم، والمجلات تخصص ملفات عن النقد بتنويعاته الكثيرة: نقد النقد، النقد الثقافي، النقد البيئي، النسوية، قصيدة النثر، مناسبات واستعادات قراءةٍ لمنجز الشعراء، فضلاً عن مساهمات النقد الأكاديمي.
لا غرابة أن نجد شاعراً وكاتباً حداثياً كأدونيس يبحث عن جذور لقصيدة النثر ليبعد عنها الهجنة أو الوفادة، فرآها في النثر الإشراقي للصوفية، كما بحثت نازك الملائكة من قبل عن جذر حداثي لشعرالرواد فوجدت البند.
خزعل الماجدي: الأساس الأول في قصيدة النثر أن تكون شعراً وليس خاطرة أو نثراً
الأساس الأول في قصيدة النثر أن تكون شعراً وليس خاطرة أو نثراً، قصيدة النثر تعني بالضبط (كتابة الشعر عن طريق النثر) ولا تعني مطلقاً النثر والخواطر والنثر المركز وكلام المشاعر والعواطف فقط، الأمر في غاية الدقة، لكن الذين استسهلوها اعتقدوا أنها صنف نثر وخواطر عادية، وهذا هو الذي ولد عندك تلك الشكوك، الأسس النظرية والعملية لقصيدة النثر قائمة في قصائد الشعراء الكبار الذين أسسوها سواء أكانوا عرباً أم أجانب، وعند كبار من نظّر لها أمثال سوزان برنارد، والمبدأ البسيط لها أنها قصيدة مكثفة تعتني بالمضمون أكثر من عنايتها بالشكل واللغة وتركز على المعنى، المعنى الخفي الموارب المدهش.
قصيدة النثر قدر الشعر الحقيقيّ وضرورته المعاصرة ولابد منها، فهي التي جردت الشعر من لزومياته الشكلية ووضعته عارياً إلا من كونه شعراً، فهي تمثل حقيقة الشعر، وبطبيعة الحال يجب أن تكون مستلزمات من يكتبها الإلمام باللغة العربية وفتنتها المعنوية والبلاغية والأسلوبية، ولا يجوز التهاون مطلقاً في نحوها وقواعدها، ولا يصح أبداً أن يكون
أداؤها ركيكاً، لكن يمكن أن يكون كلام صحافة أو أبسط من ذلك شرط أن تتفجر فيه الشعرية في كل سطر، قصيدة النثر تخلع عن جسدها البلاغة العربية الطنّانة والرنّانة وتتجه نحو لغة غير متكلفة، ولذلك فهي تمس لغة الشارع والصحافة والطفل والحياة اليومية، لهذا خلقت قصيدة النثر، لكي تغادر بلاط الملوك والأمراء والزعماء وخطابات رجال الدين وتكون أقرب إلى لغة الناسن هذا أصل بدايتها.
إبراهيم البهرزي: يجب ان تعوّض (الشعر) الذي سلب منه الايقاع مزية ً ما يعوضه عن هذا الفقدان
في الحقيقة يا صديقي لو تتذكر فإنني كتبت شعر التفعيلة قبل قصيدة النثر، لكن وكما قلت لك في اجابة سابقة لم اضم شيئا منها عندما أصدرت ديواني الأول بسبب ضياع اغلبها، فقط ومنذ نهاية الثمانينات تحولت لكتابة النصوص النثرية ولو أردت رأيي في طبيعة كتابة النمطين لقلت لك ان كتابة قصيدة النثر اكثر صعوبة على الشاعر من كتابة النصوص الموزونة اقول هذا من تجربتي، قصيدة النثر جنس شديد الصعوبة، لأنك أولا يجب ان تعوّض (الشعر) الذي سلب منه الايقاع مزية ً ما تعوضه عن هذا الفقدان، تحتاج قصيدة النثر لافكار كبيرة وأصيلة كي توقع بالمتلقي في شرك غوايتها، وتحتاج لغة غير نمطية وأسلوب مبتكر يصبح شيئا فشيئا علامة الشاعر وتوقيعه الفرد، وكل هذه المقومات تحتاج لتجربة حياتية وثقافية متفردة، لذلك اجد ان قصيدة النثر المكتوبة من قبل شاعر خَبرَ كتابة شعر التفعيلة والقصيدة العمودية، أيضا هي اكثر رصانة من تلك القصيدة التي يكتبها شاعر لم يمارس غير كتابة قصيدة النثر، عليك ان تستفيد من أمراض قصيدة التفعيلة والعمود لتمتلك المناعة الضرورية عند كتابة قصيدة النثر، المناعة ضد الإسهاب والمناعة ضد التكرار والمناعة ضد التراكيب اللغوية الجاهزة والمناعة ضد الفخامة البلاغية، كل تلك أشياء لا تحتملها قصيدة النثر، فهي كينونة حسّاسة بشكل مرضي لا تحتمل أيّا من اعباء النظم الشعري السائد، في الحقيقة هناك إغواء عالمي للتفاهة، كل بيانات العولمة هي دعوات مستترة لاجل شيوع التفاهة، ووسائل الاتصال الحديثة هي رغم كل حسناتها وإيجابياتها وسيلة أساسية لإشاعة التفاهة، سواء في الشعر او الفنون التشكيلية او المرئية او المسموعة، وعندما تتراكم التفاهة يضيع مفهوم القيمة والمعيار، وهذا ما تعانيه قصيدة النثر اليوم، التراكم والرثاثة بسبب سهولة النشر واستسهال عملية الكتابة والتواطؤ الخبيث مع من صاروا يحملون صفة الناقد، اصبح الكثير من كتبة النقد اشبه بالقوادين الذين يعلون شأن قحاب رديئات اسمهن قصائد النثر، كما هو حال مؤسسات الاعلان مع الفنانين والفنانات، كما هو حال الملاهي الليلية مع الطرب والمطربين كما هو حال المواقع الزرقاء مع تجارة الجنس، وكأن ّهناك استراتيجية عالمية لعقيدة ٍ فحواها القوادة، وقصيدة النثر صبية بريئة، تنال هي الاخرى نصيبها من الفساد في أسواق التفاهة التي شرعت ابوابها العولمة والنظام العالمي الجديد.
أديب كمال الدين: هيمنة قصيدة النثر على الساحة الشعرية أصبحت مسألةً مؤكّدةً لا تقبل النقاش
للأسف، فإنّ ما ذكرته صحيح عن جهل الكثير من كتّاب قصيدة النثر بأسس البلاغة العربية وجماليات اللغة، لكن هيمنة قصيدة النثر على الساحة الشعرية أصبحت مسألةً مؤكّدةً لا تقبل النقاش بسبب السيل الجارف من القصائد والمجاميع الشعرية التي تُكتب وتُنشر من خلالها في مختلف البلدان العربية، وهذه الهيمنة الشديدة المتحققة في الوقت الحاضر تؤكّد الهيمنة المستقبلية بالطبع، إضافة إلى ما تمتلكه قصيدة النثر نفسها من أسباب فنية تعينها بقوّة على البقاء حيّة كالتحرّر من الوزن والقافية، والمرونة، والومضيّة، والتداخل مع الأجناس الأخرى.
وبعيداً عن الشكل الشعري المستخدم، سواءً أكان قصيدة عمودية او تفعيلة أو قصيدة نثر، فإنني أرى الشعر اكتشافاً لإعماق الحياة في ومضة روحية وفنية نادرة وبأقل عدد من الكلمات. فإذا طبّقنا هذا "التعريف" سنجد أن في سيل قصيدة النثر الهائل المنشور يومياً غَلَبة واضحة للقصائد الضحلة المرتبكة الفارغة!، وقد زاد من فداحة الأمر أنّ قصيدة النثر تفتقد إلى الوزن والقافية فتصوّر الكثير من كتّابها أنّها يمكن أن تكون أيّ شيء!
إذن، هناك أزمة واضحة في الحصول على الشعر الحقيقي المتفوق المبدع، لأنّ الكثير من الشعراء والشاعرات في بلداننا العربية يفتقدون إلى الفهم الدقيق لمسألة بُنية القصيدة، ولمسألة النمو العضوي، والاقتصاد في اللغة، والقاموس الشخصي للشاعر، كما يعانون من الخواء الروحي والإنساني أحياناً. الكثير منهم لا يملكون تجارب روحية أو إنسانية ذات شأن أو عمق بحيث تستحق أن تُكتب أو ترى النور. وتجد جملهم الشعرية وصورهم الفنية مليئة بالهذيان حتى تحوّلت قصائدهم إلى ما يشبه ركّاب عربة القطار الذين لا يعرف بعضهم بعضاً، ولا يجمعهم أي جامع سوى هذه العربة!
يحيى البطاط: ببساطة، قصيدة النثر في أغلب نماذجها لا تصلح للإلقاء على حشد من المستمعين
لا أتذكر أين وفي أي سياق قلت أو كتبت هذه العبارة التي جاء في مضمونها إن "قصيدة فاشلة اجتماعيا وجماهيريا بالمقارنة مع ما سبقها من أشكال شعرية"، لكن لا بأس هذه الفكرة صحيحة إلى حد كبير، نعم قصيدة النثر فاشلة اجتماعيا وجماهيريا، مقتل قصيدة النثر هو أن تقف في حشد من الناس لتقرأها أمامهم بطريقة الشعراء الكلاسيكيين، قصيدة النثر لا تحتاج إلى جمهور، بل إلى قراء لأنها ببساطة في أغلب نماذجها لا تصلح للإلقاء على حشد من المستمعين المتلهفين إلى ما يمكن أسميه الطرب الشعري، إنها قصيدة لا تليق بأنماط التلقي المتعارف عليها في الشعرية العربية، من إلقاء وغناء وترنم وربما صراخ، قصيدة النثر تقترح شعرية تقترب من الصمت أو الهمس المحفز للتأمل والتبصر والكشف. حسنا إذا كانت هذه العبارة قد صدرت عني فهي لا تنطوي على هجاء لقصيدة النثر، بل تعبر عن دعوة لتلقيها بشكل مختلف ومغاير عن الطريقة التي نتلقى بها القصيدة العربية التقليدية، وهذا ما اشتغل عليه الناقد الكبير حاتم الصكر في كتابه الثمرة المحرمة.
عبد الرزاق الربيعي: مصطلح قصيدة النثر يبقى اشكاليا، واكتسب الشرعية بعد أن أصبح عرفا
تكتسب أية تجربة فرادتها من قوّة الموهبة، والتأسيس الصحيح، وصدق وثراء التجربة، وأيّ خلل في واحد من هذه الأركان قد يشوّه التجربة، لذا، من المهم أن يضبط الشاعر الأوزان، والنحو واللغة، فجواز المرور لذلك كتابة القصيدة العموديّة، يرى أدونيس بما معناه، أن الحداثة تتطلب استيعاب اللغة في تحولاتها التراثية والمعاصرة، ويقول الرسّام العالمي ماتيس" كنت أجبر تلاميذي على الدراسة الاكاديمية حتى لا يجدوا في أسلوبي السهولة الفنية فيتخلون عما مطلوب منهم من جهد وتدريب"، وعندما بدأت مع قصيدة التفعيلة بتأثير المحيط الذي نشأت به، وكان سيابيّا بامتياز، فقطعت شوطا، لكن بعد قراءات مكثّفة، ومراجعات، رأيت من الضروري العودة لنقطة البداية، ودراسة البحور الخليلية، وكتابة الشعر العمودي، ففعلت كلّ ذلك من أجل أن أستكمل الشروط الواجبة لكتابة قصيدة النثر، من هنا فقصيدة النثر التي أكتبها ولدت ولادة طبيعية، فجاءت عن دراية، لا عن قصور في أدوات التعبير.
يقول الناقد الكبير حاتم الصكر: "يبدو أن الولادة كانت متعسرة لقصيدة النثر، حيث رفضها التقليديون، وإشكالاته تبدأ من التسمية ولا تنتهي بالقصور في الاجراءات النقدية، فظلت تراوح بين الشعر والنثر؟" ما رأيك؟
بالتأكيد، أن مصطلح قصيدة النثر يبقى اشكاليا، إلّا أنه اكتسب الشرعية بعد أن أصبح عرفا وبدأت تتبناه المؤسسات الثقافية والأكاديمية وقد سجلت رسائل وأطاريح في قصيدة النثر، وهي الآن هي السائدة، على الرغم أن هناك عودة لشعر الشطرين بشكل ما، إلّا أن الغريب أن قصيدة التفعيلة قد انحسرت إلى حد كبير، وهذا يحتاج وقفة من النقاد لتفسير ذلك، ومازالت قصيدة النثر نبتة شيطانية في ثقافتنا العربية، فقصيدة الشطرين متجذّره، ولها تاريخ طويل، ومنجز ضخم، في تراثنا، بينما عمر قصيدة النثر، قصير قياسا لعمر قصيدة الشطرين.
هاتف جنابي: قصيدة النثر ممارسة سبقنا فيها شعراء العالم بثلاثة قرون
أمارس "قصيدة النثر" قليلا مقارنة بممارسة القصيدة الحرة التي أميل إليها في العقود الأربعة الأخيرة. في أواخر الثمانينات والتسعينات كتبت عن الفرق بين قصيدة التفعيلة والقصيدة الحرة وقصيدة النثر والنص المفتوح وعرضت وجهة نظري أيضا على طلابي في جامعتي وارسو وتيزي – وزو، ما يميز "قصيدة النثر" ليس افتقادها إلى الوزن فحسب، بل شكلها وأسلوب كتابتها. ينبغي أن تكتب على شاكلة النص النثري وألا تزيد عن صفحة أو صفحتين مع التخلي عن البلاغة والاستفادة من بعض أدوات النثر كالسرد والوصف وحتى الحكاية. أما القصيدة الحرة التي أمارسها أيضا، فهي ليست كما فهمتها (نازك الملائكة خطأ). إنها في شعري تقوم على توليفة من حضور التفعيلة التلقائي وغيابها، توليف بين الإيقاع والشكل والمعنى. إذن، فهي هندسة معمارية توظف هارمونية إيقاعية متعددة الأوجه والمستويات، تكتب بطريقة قصيدة التفعيلة، لا النثر، وأدعي أنها خاصتي. هناك فيض و"إسهال" في كتابة الشعر الرديء، ومجازر لغوية ونحوية مقززة ترتكب. لدي قاعدة تقول: ينبغي تغليب ما هو شعري على ما هو نثري داخل النص، وإلا فهو نثر.
لا ضير في ممارسة النثر من قبل الشاعر. تأخر العراق في هذا المضمار جدا. هذه ممارسة سبقنا فيها شعراء العالم بثلاثة قرون. شخصيا بدأت بممارسة القصيدة والقصة القصيرة في الوقت نفسه. من خلال تجربتي الشخصية وسفري ومتابعتي لاحظت أن عدد الشعراء لم ينحسر في العالم. نشرت مختارات شعرية في أميركا لفيسوافا شيمبورسكا قبل نيلها جائزة نوبل، ترجمها الشاعر والناقد ستانيسواف بارانتشاك وقد طبع منها مائة وعشرون ألف نسخة! مع ذلك، يبقى الشعر محدود الانتشار بحكم طبيعته، الشعر الحقيقي لا يمكن أن يكون جماهيريا.
غريب إسكندر: قصيدة النثر قادرة على استضافة أشكال وثيمات كانت "مُحرّمة" شعرياً
ما يخص قصيدة النثر العربية، فتنبغي الإشارة، عموماً، إلى قدرة هذه القصيدة الجديدة على استضافة أشكال وثيمات كانت تبدو غير "فنية" بل "مُحرّمة" شعرياً، وتوظيفها توظيفاً جمالياً جديداً. ويجب ألا ننسى بأنَّ قصيدة النثر التي يكتبها الشعراء العرب، بما فيهم العراقيون، هي قصيدة عربية وإن استعارت شكلها أولاً من الشعرية الغربية إلا أنها طورته وطوعته بما يلائم الثقافة العربية وهذا ما حصل تماماً مع الشعر الحر الذي وإن كُتب بتقنيات شعرية أجنبية، إلّا أنَّ "روح" القصيدة يظل عربياً، وهذا الأمر لا يتعارض، بالطبع، مع انفتاح القصيدة؛ أي قصيدة في بعدها الإنساني العام. والمفروض أنَّ هؤلاء المجددين على دراية كبيرة بتراثهم الشعري. وإلّا لا أفهم كيف يمكن لشاعر أن "يجدد" وهو ضعيف الصلة بتراثه وثقافته ولغته؟! يجدد ماذا؟! أنا أفهم التجديد بوصفه اختراقاً وتغييراً لما هو مألوف، وهذه يعني أنَّكَ تعرف "الطرق" القديمة حتّى ولو لم تكن قد "سلكتها". وفيما يخص شعراء التسعينيات فأعتقد أنَّ جلّهم قد درس الأدب العربي أكاديمياً وهذا يعني أنك تدرس التراث الشعري العربي القديم ومدارس الشعر الحديثة بما فيها الأجنبية وتتعلم تقنيات الشعر ونقده. وأعتقد إنّ النخبة التسعينية، إذا جاز التعبير، هي آخر جماعة عراقية انشغلت انشغالاً تاماً بالحداثة الشعرية؛ وأعني بذلك أنَّ كلَّ شعرائها كان يكتب قصيدة النثر تقريباً. وقد اختلفت أسلوبياً وثيماتياً عن سابقاتها. إذ طغت على نصوص مَن سبقهم "التجريد اللغوي" أكثر من غيره، مع أنَ الواقع العراقي في الثمانينات كان ضاغطاً بشدة حيث الحرب العراقية-الإيرانية وويلاتها والمشاكل السياسية الأخرى. بينما استجاب شعراء التسعينيات أكثر لحيواتهم "الواقعية"، ولكن في أطار تقنية حديثة، لا "منبرية" كما تسود الآن في المشهد الشعري العراقي وكذلك العربي. هذه "المنبرية" لا علاقة لها بالشعر الكلاسيكي الذي درسته ودرّسته وكلنا تعلمنا من نماذجه الخلاقة قديماً وحديثاً؛ إنّها أبعد من ذلك ولها "أجندة" في "تعطيل" الشعر بوصفه مشروعاً جمالياً ورحلة يصنعها الشاعر والقارئ. فالمنبرية تعطل الركن الثاني "القارئ" من هذه الرحلة وتحوله الى مجرد مستمع منفعل لا مشاركاً فاعلاً وايجابياً. إنّها أصدق مثال على "الدكتاتورية" حيث الرسالة الشعرية تكون باتجاه واحد فقط يحدده الشاعر، وما على المتلقي إلا القبول به، بل وبتمجيده بعبارات الطاعة العمياء! على عكس القصيدة الحديثة التي تمنح "ديمقراطيتها" ركنها الثاني (القارئ) القبول أو الرفض أو التعديل، وهذا هو عين المشاركة "الديمقراطية".
عدنان الصائغ: من يدري كيف سيكون شكل القصيدة وموضوعاتها بعد مائة أو ألف عام
الشِعر مغامرة وثورة وتغيير في شكل العالم، فما بالك في شكل القصيدة. فمنذ فجر الإنسانية والقصيدة في تحوّلات كبرى من التراتيل في المعابد وأغاني الصيد والحقل، إلى الملاحم الكبرى، الى الشعر العمودي (بموضوعات الطلل والنسيب والحماسة والهجاء والمديح والخ)، إلى الموشحات، إلى السونيتات والتروبادور، والبند والدوبيت، والكان كان، وصولاً الى قصيدة التفعيلة والقصيدة المدورة وقصيدة النثر والنصّ المفتوح، والهايكو، والتاناكا اليابانية، والكوشيه واللوشيه والتشي الصينية، وأغاني التانغ والتنترا والبوران الهندية، والموشحات والدوبيت واشراقات المتصوّفة، القصيدة الميكانيكية، والكونكريتية، والتماعات السريالية، وقصيدة البياض إلى إلى إلى.. من يدري أو من يمكنه أن يتصوّر كيف سيكون شكل القصيدة وكذا موضوعاتها بعد مائة عام أو ألف.
لا ثبات في الشِعر، مبنىً ومعنىً ولحنا، وعلى الشاعر دائماً أن يجدد في شكله وايقاعاته وموضوعاته، لا لمجرد التغيير بل لضروراتٍ ومخاضاتٍ وتحولاتٍ فنيةٍ وابداعيةٍ ملحّةٍ يفرضها العصر والموضوع وأمور أخرى.
بالنسبة لي أستطيعُ القولَ إنني جربتُ الأنواع الشعرية: من القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة، إلى القصيدة المدوّرة، إلى النصّ المفتوح، إلى قصيدة النثر، إلى القصيدة الطويلة جداً (والتي تربو على 550 صفحة) إلى النصوص القصيرة جداً: التكوينات والتوقيعات (والتي لا تتجاوز 6 كلمات، أو سطرين).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram