اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > "غرباء" في ألبوم أمي

"غرباء" في ألبوم أمي

نشر في: 12 ديسمبر, 2012: 08:00 م

لملايين العراقيين حكاية مشابهة لمقال اليوم. لقد امضيت الفجر اتحدث مع شاب متعلم كان يحتج علي بعبارات قاسية لانني استخدمت وصف "حريق الرايخ" لوصف طريقة السلطان في التفرد بالحكم. وبعد اخذ ورد اكتشفت اننا نحن الاثنين ننتمي لعوائل تعرضت الى قمع سياسي هائل خلال العهد السابق. وبعد اطاحة صدام صار كثير من ابناء عائلته في السلطة، مثلما حصل لبعض اقاربي. انه يقول لي: كيف تنتقد "حكومة اهلنا" بهذه القسوة، وتستخدم العبارات المؤثرة في التحريض على "التمرد"؟

لقد كان يتحدث عن "حكومة اهلنا" وشعبنا، وأنا أسرح بعيدا لأتذكر ألبوم صور كانت تتصفحه امي فألتحق بها انا الصبي محدقا في صورة لوالدها قرب سيارته الفورد موديل ٥٢ وهو متأنق امام مصفى المفتية. صور من مراهقة ابي بين بساتين نخل لم يعد لها وجود اليوم، صورها هي في "دار المعلمات". ثم تأتي صور من نوع آخر لشباب لا اعرفهم. هل هي لغرباء يا أماه، من هم هؤلاء يا ترى؟ تقول لي: مازلت صغيرا على معرفة هؤلاء! تغلق الالبوم وتخفيه وتبكي بصمت وابقى انا حائرا. لماذا يتضمن ألبوم العائلة عام ٨٤ وجوها تتكتم امي على هويتها مع كل هذا البكاء السري؟

ولم يطل انتظاري كثيرا كي افهم. ففي ٨٦ كانت المصائب تأتي من كل الاتجاهات. الجيوش تتخندق امام بعضها على اطراف بلدتنا، وصافرات الانذار تصرخ، وبدل ان تتعاطف معنا الحكومة كمقصوفين، فإن رجال الامن يقودون خالي من مبنى الاعدادية الى مديرية الامن، وحين زرناه في ابو غريب بعد شهور اكتشفت ان لدي عائلة اخرى تقبع في السجن وتبكيها الامهات سرا كي لا نفشي نحن الصبيان "بلاوي" الاهل. وكان هذا تعتيما لا ينفع. فقبل عمليات الفاو او بعدها بأيام دق باب المنزل مسؤول حزبي ابلغنا "بأسف" ان سلطان ذلك الزمان فصل الوالدة من سلك التعليم لان افرادا عديدين من عائلتها تعرضوا للاعدام والسجن بسبب معارضتهم السلطان. تنفجر الوالدة بالبكاء فهي لم تكن سوى امرأة تلقي دروسا على التلاميذ، وفي لحظة اصبحت مجرد "لا شيء"، او هكذا شاء فخامته. يتواصل بكاء الوالدة لأبدأ انا تلميذ الرابع ابتدائي خوض "اول مرافعاتي السياسية" واطرح اسئلة عن اقارب نراهم في سجن ابي غريب، وشباب "مجهولي الهوية" في ألبوم العائلة. اما هي فتنخرط في هستيريا لتحكي كيف اقتادوا هذا من الجامعة وذاك من قاعة الامتحان والثالث من بين يدي امه، والرابع المجهول المصير..الخ. لقد كانوا اولاد خؤولة وعمومة اختفوا قبل ان يسمح عمري بتذكر اشكالهم.

ملايين العراقيين مروا بتجارب مشابهة من بيخال الى سيحان مرورا بسامراء، عوائل اليسار واليمين والبعث نفسه. وهؤلاء جميعا خاضوا اول نقاشاتهم السياسية يوم عاشوا تفاصيل القمع مبكرا. وقد كبروا اليوم، بعضهم صار فاسدا يعتقد انه لا يأخذ سوى تعويض عن القمع. وبعضهم متردد في تأييد "حكومة اهلنا" او الاحتجاج ضدها، بينما كثير منهم يشبهون الشباب المجهولين في ألبوم صور امي سميرة، ولا يترددون في الاعتراض على الفشل مهما كلف الامر.

ان لدينا اهلا في السلطة نتمنى لهم كل نجاح، لكن لدينا ايضا اهلا وشعبا من ٧ ملايين نسمة، يقيمون في "الحواسم" ومليوني جائع في الموصل وبغداد، ولدينا المدينة البحرية الوحيدة في العالم التي تشرب ماء البحر وتستنشق دخان النفط. هذه مدن تفتح ألبوم العائلة كل ليلة بحثا عن اسئلة الماضي وشكوك الحاضر. والسلطان يركب الدبابة ويغلق قاعة الحوارات ويفكر باحراق كل "رايخ" يقف امامه.

صديقي الشاب القلق على "حكومة اهلنا"، اسمح لي ان اقول لك: ليس على السلطان ان يخشى البعثيين او القاعدة اليوم، فهم اقل جرأة من ان يعارضوه بطريقة حديثة ويكشفوا تخلف سياسته. كما ان كل مسلحي العالم لن ينجحوا في تقويض شرعية ما بعد صدام. لكن على السلطان ان يخشى "اهل الحكومة الحقيقيين". ان من سيحمي "الرايخ" والمؤسسات الدستورية هم اجيال تظاهروا في كل ساحات العراق مرارا، وشباب احرقوا صور السلطان في بغداد والبصرة، ولم يكونوا بعثيين ولا قاعديين. انهم "اهل الحكومة"، يخشون على سمعتها اكثر من فريق المالكي، وفي ألبومات امهاتهم كانت هناك صور لافراد من العائلة مجهولين ويبكيهم الجميع في السر. الشباب المجهولون لم يحظوا حتى بمجلس فاتحة لائق، وكانوا شجعانا، لكنهم لم يحلموا بحكومة تتفنن في الفشل وتتلعثم حين تفسد وتتخبط حين تغضب ولا تنصت لعاقل، بينما تشتم معارضيها وتفكر بإحراق الشرعية.

انها معارضة المستقبل التي لا يريد السلطان فهمها، وهي كابوس تاريخي لكل مستبد، ومعارضة من صميم الشرعية. هذه معارضة تقول للسلطان: لست الوحيد الذي قدم التضحيات.. فقد استشهد اهلك واهلنا كي نحصل على حرية بمعايير حديثة وكرامة تليق بالاحرار.

الجيل الذي تعرض لقمع مبكر هو ذاته الذي يتحمل مسؤولية تقويم السلطان المصاب بالدوار والزهو، والذي جعل عقلاء البلاد يشعرون بأسوأ انواع القلق. ان امثال سميرة لم يعودوا يكتمون اليوم احتجاجهم او يبكون في السر. لا اسرار في زمن العولمة، بل احتجاج مستمر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 6

  1. عمران عباس

    بوركت سرمد البطل --كلما قرات لك مقال او رايتك في مقابلة تلفزيونية اشعر باننا لم ننهزم --ولن ننهزم--شكرا لبث الامل فينا

  2. raed albustany

    نعم لكي لا تتكرر اخطاء الماضي القريب عندما وقع بعض ابناء البلد تحت تأثير الطائفه والجهه والمنطقه في شرك(حكومة اهلنا)إبان حكم الطاغيه والذي شجع عليها.

  3. منتصر ابو سجاد

    اخي السلام عليك ماذا يقصد الاخ بحكومة اهلنا حتى ولو كانوا انذال ام شعاره كلب شيعي خير من امام سني لاياسرمد لاتهتم لهكذا اصوات نكرة هؤلاء هم سبب تدميرنا ودمارن وتاخرنا عن ركب التطور

  4. منتصر ابو سجاد

    اخي السلام عليك ماذا يقصد الاخ بحكومة اهلنا حتى ولو كانوا انذال ام شعاره كلب شيعي خير من امام سني لاياسرمد لاتهتم لهكذا اصوات نكرة هؤلاء هم سبب تدميرنا ودمارن وتاخرنا عن ركب التطور

  5. منتصر ابو سجاد

    اخي السلام عليك ماذا يقصد الاخ بحكومة اهلنا حتى ولو كانوا انذال ام شعاره كلب شيعي خير من امام سني لاياسرمد لاتهتم لهكذا اصوات نكرة هؤلاء هم سبب تدميرنا ودمارن وتاخرنا عن ركب التطور

  6. منتظر القيسي

    الحقيقة المرعبة أننا تحت ظل الطاغية المقبور كنا نعيش على أمل أو قل وهم بأن مصائبنا إلي زوال مهما طال الأمد يوم يسقط الطاغوت ,,لكننا فوجئنا بأن ما كنا فيه ليس سوى النتيجة لا السبب ,,العرض وليس المرض,, وهذا المرض جيني لا شفاء منه ورثناه عن أسلافنا وسنورثه ل

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram