طالب عبد العزيز
إنَّه أنا من يفتحُ النافذة ببطء، وتخذله ذراعُه الآنَ، وأنا من يتخذ من النسيان دريئةً؛ يتحججُ بها عمّا لم يعدْ يبصره، ومن رائحة البيت سبباً للبقاء أكثرَ في الحديقة العامة. أقولُ لبائع النَّهار: ممَ تُصنع الذكريات؟ ولبائع الليل: كمْ ستتأخرُ الشمسُ في الحقول! من كوب الحليب تصنع الأمُّ قبلتها على الطاولة في الصباح، وفي باص المدرسة الأصفر تصطلحُ الحقائبُ، وينهمرُ صوتُ الطفولة، ومن ثلمة، أقصى الشارع يتلو الشجرُ سورةَ الظلال.. ومن هناك؛ من هناك؛ حسب، لا أحدَ يخدشُ لونَ البراءة.
سأكون سعيداً، لكن ليس كما تعتقد زوجتي، وسأسافر الى بلاد أخرى، لكن ليست تلك التي حدثني عنها الاصدقاء، وسأكتب عمّا شاهدته هناك، أرتدي من البحر فؤاده الأزرق، ومن الصحراء رملتها الدافئة، وأصطفي من الشوارع ما كان رفقةً وخلاصات، ثم أحتسي الكثير من الانبذة، لأظلَّ معتقداً بأنَّ السنين كالطرقات لا تبلى بالاحذية، وأنَّ أروقةَ المتاحف تقبلني بالنسيان الذي أنا عليه. ما الجرح إن لم يكن أثراً لغياب؛ وما المركبات إن لم تكن كذبةً في بلوغ الفيافي والثغور، وما النجوم إنْ لم تكن متاهةً في البحار؟ تقول فريدا كاهلو: "أنا لستُ مريضةً، أنا محطمةٌ".
ما الذي يفعلهُ الجسدُ الانثويُّ الراقصُ في الدَّبكة الكرديّة؛ وبماذا سنمهرُ مكيالَ السعاداتِ التي تتقاذف الأرواح تلك، التي تتخلقُ بحركاتُ الجسد؛ في تراتبها، وتكرارها، واقترابها، وتباعدها. .وأنّى يكون للراقصين إختصار الانوثة والطفولة معاً في جسدٍ واحدٍ، يرتجُّ ويهوي، ثم يمسكُ بعضُه ببعضَه؟ أُ شْهِدُ اللهَ أنْ لا وصايةَ عليه من مدرِّبٍ، ولا سلطانَ من شاهقٍ عليه، هوَ حرٌّ في قيامته وسكونه، مطلقٌ في طبيعته، يكبرُ في القماش، ويصغرُ في الاغنية. خطوةٌ باسقةٌ الى الامام؛ ومثلها حييّةٌ وبطيئةٌ الى الخلف، وضنينةٌ على الجانبين، كذلك ستكون الاكتافُ طيعةً، لا تقيِّدها الكمنجات، ولا تعصفُ بها ريحُ المزامير، ولا جنايةَ للاردافِ فيما هي عليه، هي مما لا يُرى، ولا يظهرُ منه إلّا الظلال، تخايلنا فنذهبُ "محيعلينَ " في الـقراءات والتآويل، أمّا حقيقتها فهي في قاع الصورة، مضمرةٌ لا يفصحُ شريطُ التذكّر عن مكنونها. الجسدُ يقظٌ في أسمائه، مكنونٌ في ينعه، ويُروى بالرقص والرعشات.
ما المرأةُ إنْ لم تجعلْ فراشك دافئاً! كثيراً ما يحفرُ العشاقُ أسماءَ حبيباتهم على جذوع الأشجار في الحديقة العامة، ولطالما كنتُ أتوقفُ عند الحروف والجمل والرسوم تلك، التي نُقشت بالمفاتيح مرّةً أو بأدوات علبة الهندسة مرةً أخرى، على الأشجار العملاقة تلك، حيث نكون هناك دائماً، وحين قضت البلديةُ أمراً بتجريف الحديقة؛ هُرع بعضُ من ظلَّ منهم، يلتقطُ من التراب الكلماتِ والرسوم تلك، متوسلاً الجذوعَ وحراسَ الحدائق؛ في إصرار منه على استعادة الزمن، وإيقاف الهدم، فيما الآلة تمضي، بكلِّ عناد الحديد، ماسحةً الأيامَ والشهور والسنوات. يكتب حسن نجمي:" إذا عدتَّ وكنتُ نائمةً لا تقلْ إني مَيْتةٌ/ فقط تخليتُ عن كلِّ شيء" ثم يستدركُ فيكتب:" افتحْ النافذة. لابدَّ أنَّ القمرَ هناك." ويقول بائعُ الاحجية: لم يكن الوردُ مسيحياً، لذا، نحن بحاجة دائمة الى شيء نأسف عليه، وفي لحظات كثيرة يتوجب علينا أن نقول: انسلّوا برفق أيّها الأجداد الطيبون، هناك اسوار ضيقة للصمت أيضا.










