TOP

جريدة المدى > سينما > "أسود أحمر أصفر": سينما شاعرية مُرهفة من آسيا الوسطى

"أسود أحمر أصفر": سينما شاعرية مُرهفة من آسيا الوسطى

نشر في: 28 أغسطس, 2025: 12:03 ص

قيس قاسم
ينسج القرغيزي أكتان أريم كوبات (1957) من خيوط السجاد اليدوي قصيدةً سينمائية حزينة، يحاكي كلُّ لون فيها فصلاً من فصول قصة حب ناقصة، كلماتها مَشاهد سينمائية مرويّة بالصُوَر، عن علاقة يحيطها الالتباس واللاقبول، في قرية قرغيزية بعيدة، غارقة في النسيان واليُتم.
من المشاهد الأولى، يدخل "أسود أحمر أصفر" (2025) في لجّة غموض شاعري، لا يبيح صراحة عن علاقة امرأة ستينية، تطوي سجادة صغيرة بعناية، وتدسّها في حقيبة تحملها معها في رحلتها إلى مكان مجهول، الطريق إليه غارقة جوانبه في جمال طبيعي ساحر. لكي يُنسي وجودها، يعود النصّ السينمائي (كتابة مشتركة بين كوبات والسيناريست توبتشوغول شايدولايفا) المُذهل في رهافته، والحاصل بفضلها على الجائزة الكبرى لمسابقة أفضل فيلم روائي في الدورة 17 (13 ـ 22 يونيو/حزيران 2025) لـ"مهرجان شنغهاي السينمائي الدولي"، إلى زمن أبكر، وبيت صغير من بيوت القرية الساكنة إلّا من هدير مياه النهر الذي يسوّرها.
توصي صاحبة البيت العجوز حائكةَ سجاد شابة أنْ تكون سجادتها كفناً لها، يلفّ تابوتها عند دفنها. هذا كل ما تتمنّاه، بعد أنْ خاب رجاؤها بعودة ولدها، الذي غادرها للعمل في المدينة، بعد تعطّل التعاونيات الزراعية الاشتراكية عن العمل، إثر نهاية الاتحاد السوفييتي. أسودٌ كان لون خيوط السجادة غير المكتملة، المؤطّرة بحوافي لون أحمر باهت، لا حضور له. هذا يكفي للتعبير عن حالة الحزن التي تعيشها العجوز، وإحساسها بقرب أجلها. فطرياً، تعرف الحائكة توردوغول (نارغيزا ماماتكولوفا)، الأشهر في الأراضي القرغيزية الواسعة، كيف تختار ألوان السجادة المناسبة للتعبير عن دواخل مالكها، وحالته لحظة نسجها.
حسّ التكوين اللوني متأصّل فيها، كبقية الحائكات الجوالات في قرى قرغيزستان. السجاد عند أهلها لوحاتهم التشكيلية. ألوانها تجلي المعاني الكامنة في نفوسهم، فتغدو بعد اكتمالها كتاباً منسوجاً، فيه يسطّرون ما يريدون من أدعية وأمنيات.
شيرين (ميرلان عبدالخالقوف)، اللحوحة المحرومة من الذريّة، تريد من زوجها قادر (إيغول بوسورمانكولوفا) أنْ يكون كبقية رجال القرية، أنْ يمتهن عملاً ثابتاً في المدينة، لا أنْ يكتفي برعاية حصانه كل الوقت، والفائض منه يمضيه في سهرات مع أصدقاء. لا تتردّد في مشاحنته جهاراً، وأمام الجميع. أمنيتها أنْ تكمل الحائكة توردوغول سجادتها، التي تنتظر منها تحقيق أمنيتها بولادة طفل، يُعوّض وجوده فتورَ زوجها. أكثر من هذا، يرفع ضيوف بيتها الدعاء لله أنْ ترى بعد اكتمال نسجها أطفالها وهم يلعبون عليها. في باحة منزلها، ومن دون اندفاع عاطفي، تتشكّل بداية علاقة عاطفية بين الحائكة وقادر.
على غرار النصوص السينمائية الكبيرة، يترك صانعه المثلث العاطفي يأخذ طريقه في السرد، من دون انفعالات مفرطة، فألوان خيوط السجادة تعوّض التعبير عنها. مع كل الجو المتوتر، تنسج الحائكة العاشقة، ببراعة، خيوطاً حمراء قانية، تقارب لوعتها للوصول إلى عشيقها. بالأحمر، تعلن عن حبها، وعن احتمال أنْ تستوطن ناراً مُلتهبة في الروح يوم موته.
بأسلوب يقارب الأعمال الرومانسية الكبيرة، تُسرد قصة الحب القرغيزية، بمكانها وروحها. هذا يعطي لمساراتها الدرامية طابعاً محلياً وإنسانياً في آنٍ واحد، ويجعل النص السينمائي مرتعاً لحالة عشق خاصة، ربما اللون الأصفر الأكثر تعبيراً عنها، لمقاربته نفسياً حالة سقوط أوراق الشجر الصفراء في الخريف.
بغياب الأبناء، وترك الرجال بيوتهم بحثاً عن عمل في مدن بعيدة، يغدو مشهد القرية المهجورة بائساً. رعاة الخيول، العاملون في التعاونيات الاشتراكية، لم يعد لهم وجود بزوالها، وزوال راعيها السياسي، الاتحاد السوفييتي. مشهد القرية المهجورة يقارب هجران العالم لدول آسيا الوسطى، وهذا تجليه عبارة يصارح بها قادر عشيقته لحظة اعترافه لها بأنّ حصانَه الكائنُ الوحيد الذي يفهمه في هذا العالم، لأنّه يتيم مثله، وما عاد يملك مكاناً يأويه، ويتفهّم مشاعره. يريد منها أنْ تبقى معه كما حصانه. لن تكون مثله، فهي، المرأة الحائكة، مُحاصرة بأسئلة القيم الأخلاقية والدينية. يجعل كوبات من القرية القرغيزية مصغّراً لبلدٍ تفتّت، كما تتفتّت حالة عشقها العابرة.
في مراسم دفن قادر، بعد سنوات طويلة على انفصالهما، وعودته إلى زوجته، تصل توردوغول. تترك الحقيبة عند عتبة البيت. السجادة التي بداخلها لونها أصفر أساساً، تحاذي خيوط أطرافها ألواناً أخرى، لا تُقلّل قوة طغيانه على مساحة السجادة مجهولة الأصل.
كالنهايات الرومانسية الحزينة، تنتهي قصة العاشقين القرغيزيَين. لكنْ، بخصوصية سينمائية يُذكر بها التوصيف النقدي الذي يطلق على صانعها: مُبدع الشاعرية السينمائية في آسيا الوسطى. من حيث لا يُنتَظر، تأتي أحياناً كثيرة جواهرُ إلى المشهد السينمائي العالمي، لا يُلتَفت إليها كفاية لحظتها، لكنّها تجد طريقها، ويتعرّف العالم عليها. فلا جواهر سينمائية تضيع بسهولة، ولن يمرّ فيلمٌ كـ"أسود أحمر أصفر" من دون توقّف نقدي جدير به.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

محمود هدايت: في السينما الشاعرية لا توجد صور قطّ.. بل أزمنة

"الست" عن حياة أم كلثوم محور حديث رواد مواقع التواصل الاجتماعي قبل عرضه

رحلة إلى عوالم البحر الأحمر السينمائي

مقالات ذات صلة

سينما

"الست" عن حياة أم كلثوم محور حديث رواد مواقع التواصل الاجتماعي قبل عرضه

متابعة: المدى لم يلبث فريق عمل الفيلم المصري "الست" أنْ عرَض الإعلان الترويجي للفيلم الذي يجسّد حياة "كوكب الشرق"، أم كلثوم، التي تقوم بدور شخصيتها الفنانة المصرية منى زكي، حتى ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram