علاء المفرجي
3-3
مصدر الافكار في السينما يُقدم كما في اي فن- من خلال الحقيقة الواقعية للحياة، هذه الحقيقة التي لا يمكن ان "تُستنفذ".. ومن المناسب في هذا المجال ان نلجأ الى اراء دستويفسكي حول اقتناعه بان الافكار العميقة حقاً "تقدمها الحياة الاعتيادية (الجارية)" فمن ملاحظة تصدر عنه يقول "تتبعوا حقيقة من حقائق الحياة الواقعية، حقيقة لا تبدو بارزة جداً للوهلة الاولى، واذ كنتم تتحلون بالقدرة الكافية، واذا كانت لديكم عين تبصر، فانكم واجدون دون شك في هذه الحقيقة عمقاً لا نصادفه حتى عند شكسبير غير ان كل المسألة تتوقف على ما ياتي: في نظر من ومن الذي ستتوفر لديه هذه القوة؟ حقاً.. انه من اجل ان نلاحظ الحقيقة فقط فلا بد من فنان".. ودستويفسكي يرى بانه من اجل ان تحصل على افكار عميقة لابد من قراءة الصحف ففيها "نصادف عرضاً باكثر الحقائق واقعية واكثرها تعقيداً".. ولدى الفنان المراقب ليست القضية كما يشير دستويفسكي- قضية مادة، بل قضية عين، فان كانت هناك عين ستكون المادة حتماً موجودة "وقد ترى عين موضوعاً هناك حيث ترى عين اخرى مجرد تراكم".. فهي اذن قضية الانغمار كلياً في "الحياة الجارية" والكشف فيها عن الدرامات الجديدة والعظيمة، وعن المعنى العظيم الذي لم يكن ما يماثله.
ان غوغول - يعتقد الباحث كوزينوف- اول من سار في هذا الطريق، الذي قطع فيه دستويفسكي خطوات عملاقة فيما بعد وقد اطلق دستويفسكي على غوغول اسم الشيطان الذي "صنع لنا مأساة فظيعة من معطف يفقده موظف"... بعد ذلك بقرن وفي مجال فن الفلم سيضع لنا "شيطان" الواقعية الايطالية الجديدة "جيزار زفاتيني" مأساة لا تقل فظاعة عن دراجة يفقدها عامل.
هذا الامر يعبر لنا عن الافكار العظيمة التي يمكن ان تخرج عن تفصيلة تافهة، فقط لو توفرت "عين الفنان".
وقد تجلت ثورة الواقعية الايطالية الجديدة بإلتزامها بهذه الطريقة الفنية في الابداع السينمائي بشأن الفكرة، فمن الممكن خلق فلم كبير من فكرة بسيطة.. لذا فقد ارست هذه المدرسة دعائم الحل البصري للفلم وكرست اهمية العناصر السينمائية مجتمعة في تشكيل العرض المؤثر، واكدت على الجانب البصري وهو روح السينما- في عملية الابداع في فن الفلم.
كما ان هذه المدرسة مهدت.. كما نحسب لإتجاه السينما نحو فكرة "سينما المؤلف" (التي تميل الى اعطاء المخرج الاهمية الاكبر من خلال كتابة افلامه او مساهمته بها)، والتي اعتبرت المعالجة الفلمية هي المهمة في الحكم على قيمة الفلم وليس موضوعه، اذ كلما كان الموضوع صغيراً كما يرى كلود شابرول- استطاع المخرج ان يقدم "معالجة كبيرة" وان المواضيع المتواضعة هي الاغنى من ناحية الامكانية الفنية وهذا يحدث فقط حين تتوفر الموهبة الاخراجية التي يتحدث عنها ميخائيل روم- لدى المخرج، الذي يمتلك مخيلة حية ملموسة وغنية، والقادر على استخدام التفاصيل، والاهم من ذلك الذي لا يفتقر الى الحس الدرامي الحاد.. حين تتوفر مثل هذه الموهبة، فان أية فكرة سيكون لها محتوى تأثيري مهم ودورها في تشكيل الفلم الجيد.
خلال هذا الاستعراض السريع لتطور الكتابة للسينما، وما ينبغي ان تكتسب هذه العملية من خصوصية ضمن الفهم الشامل لكيان فن الفلم، باعتباره فناً مستقلاً..نبّشر مع "استروك" بعصر السينما الجديد، الذي سيتاح لها فيه ان تصبح وسيلة للكتابة، تكون على مهارة ومرونة اللغة المكتوبة..وسوف "لا يكون اي مجال محظوراً عليها".. فالمدى التعبيري الفريد لهذا الفن المتجدد يجعل من السينما قادرة على تصوير الواقع مهما كان لا متناهياً وحتى تجاوزه، وكل التأملات البشرية والأفكار والنظرة الى العالم، باتت اليوم في وضع لا يجعل اي شيء غير السينما قادراً على الاحاطة بها.. اذ تبقى السينما كما يصفها بازوليني- هي "المشهد اللامتناهي".









