بغداد – تبارك عبد المجيد
مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية في العراق، يتجدد الجدل حول استغلال ملف التعيينات الحكومية كورقة ضغط سياسية وأداة دعائية، في وقت يحذر فيه خبراء من تداعياتها السلبية على العدالة الانتخابية والاقتصاد الوطني. فبينما تعلن الحكومة رسمياً وقف التعيينات، تواصل بعض القوى السياسية فتح باب الوظائف في المحافظات تحت عناوين متعددة، ما يثير تساؤلات حول مصداقية القرارات الحكومية ويعزز الشكوك بشأن توظيف المناصب العامة لخدمة أهداف انتخابية آنية على حساب الاستقرار الاقتصادي للبلاد.
وفي هذا السياق، يؤكد الناشط السياسي حسين العظماوي أن "استغلال المناصب الحكومية لأغراض انتخابية يمثل أحد أبرز التحديات التي تقوض العدالة الانتخابية في العراق"، لافتاً إلى أن بعض المحافظين والوزراء لجأوا مؤخراً إلى استخدام ملف التعيينات كوسيلة لجذب أصوات الناخبين، بدلاً من أن يكون استجابة حقيقية للاحتياجات الاقتصادية المتزايدة.
العظماوي يشير لـ"المدى" إلى أن بعض المحافظين والوزراء لجأوا مؤخراً إلى فتح باب التوظيف الحكومي، في خطوة يرى فيها كثيرون أداة لجذب أصوات الناخبين أكثر مما هي استجابة لحاجة اقتصادية حقيقية، خصوصاً في ظل الأزمة المالية التي يلوح شبحها بين فترة وأخرى.
ومن هنا، يضع العظماوي المسؤولية الأكبر على عاتق المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، داعياً إياها إلى ممارسة دورها الرقابي بجدية، والوقوف بحزم أمام أي محاولة لاستغلال موارد الدولة في سباق انتخابي يفترض أن يكون قائماً على تكافؤ الفرص بين القوى السياسية.
لكن، وبينما يبقى التوظيف الحكومي سلاحاً انتخابياً ذا حدّين، فهو من جهة يخفف من البطالة، لكنه من جهة أخرى يشكل عبئاً ثقيلاً على اقتصاد هشٍّ تبدو القوى السياسية العراقية غير آبهة بتداعياته بعيدة المدى، ماضيةً في التعامل معه كأداة لتعزيز نفوذها وتوسيع قاعدتها الزبائنية، يضيف العظماوي.
ذكر المكتب الإعلامي لرئيس مجلس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، في وقت سابق إيقاف التعيين والتعاقد في دوائر الدولة كافة، محذراً من محاولات استمالة المواطنين بهذا الخصوص ضمن الدعاية الانتخابية.
وبيَّن البيان الذي تابعته "المدى" أنه "لوحظ في الآونة الأخيرة وجود جهات سياسية تحاول استمالة المواطنين، وإيهامهم بوجود تعيينات ضمن الأجهزة الحكومية"، مؤكداً أن قانون الموازنة الثلاثية الذي صوّت عليه مجلس النواب، نصّ في (المادة 14/ رابعاً أ) على إيقاف التعيين والتعاقد في دوائر الدولة كافة، فيما حذّر المواطنين من الأعمال التي تعمل على استغلالهم من أجل غايات ومصالح شخصية تندرج ضمن الدعاية الانتخابية.
فساد ووعود وهمية!
اعتبر المحلل السياسي محمد زنكنة أن قرارات رئيس الوزراء في العراق تواجه تجاهلاً ممنهجاً على المستويات السياسية والإدارية والعسكرية، باستثناء ما يتعلق بإقليم كردستان حيث يتم تنفيذها بشكل سلبي ودقيق، على حد وصفه.
وقال زنكنة لـ"المدى" إن "للأسف رئيس الوزراء لا يمتلك قراره، فهناك ملفات حساسة مثل السلاح المنفلت، المنظومة الدفاعية، تحركات الجيش، وضبط الأمن الداخلي، جميعها تُسجَّل وتوثَّق ولكن لا تُنفَّذ".
وأضاف أن ملف التعيينات يمثل صورة واضحة للفوضى والفساد داخل مؤسسات الدولة، موضحاً: "التعيينات باتت تُستغل كدعاية سياسية لمرشحين ومسؤولين، حيث تُمنح وعود بتوظيف مئات الأشخاص، بعضهم موظفون وهميون أو فضائيون، بهدف كسب الأصوات الانتخابية".
وبيّن زنكنة أن هذه الممارسات تتكرر مع كل دورة انتخابية أو مناسبة سياسية، مؤكداً أن "الكثير من النواب والمسؤولين يستقطعون جزءاً كبيراً من رواتب الموظفين المعيَّنين شكلياً، فيما يحصل المواطن البسيط على جزء يسير فقط، مقابل بقائه موظفاً بالاسم".
واعتبر أن هذه الظاهرة تعكس استمرار الفساد الإداري ونهب ثروات الدولة، مشيراً إلى أن "ضرب قرارات رئيس الوزراء عرض الحائط أصبح وكأنه أمر طبيعي، حتى بدا وكأنه غير موجود فعلياً في العملية السياسية".
ويرى الباحث السياسي علي القيسي أن ملف التعيينات بات ورقة انتخابية بامتياز، حتى حين يُعلن رئيس الوزراء منعها، إذ يصف القيسي هذا المنع بأنه "محاولة أخرى لكسب الأصوات، بعد أن لجأت الحكومة الحالية إلى استثمار موضوع التعيينات والمشاريع الخدمية – كالطرق والجسور – للترويج لنفسها بشكل مبالغ فيه وبعيد عن الواقع".
وفي السياق ذاته، يشير القيسي إلى أن محافظ البصرة أعلن مطلع الشهر الجاري عن إطلاق 14 ألف درجة وظيفية، في خطوة اعتبرها كثيرون محاولة مزدوجة؛ لتهدئة الشارع بعد الضجة التي أثارتها قضية الدكتورة بان وموقفه منها، وأيضاً لتعزيز رصيده الانتخابي. والمفارقة – كما يصفها القيسي – أن هذه التعيينات جاءت بعد قرار رئيس الوزراء نفسه بإيقاف التعيينات في مؤسسات الدولة.
ويبيّن أن "مطرقة الأزمات الاقتصادية التي تضغط على البلاد، وسندان الحسابات الانتخابية التي لا تفارق أجندة القوى السياسية، تجعل المواطن العراقي شاهداً على مشهد يتكرر في كل دورة انتخابية"، مؤكداً أن "العدالة الانتخابية مهددة بالتآكل، خطوة بعد أخرى، فيما تُقدَّم المصالح الحزبية والشخصية على حساب استقرار الدولة واقتصادها".
مخاوف اقتصادية!
ذكر دكتور الاقتصاد الدولي نوار السعدي أن القرارات الأخيرة الخاصة بتوسيع التعيينات في القطاع الحكومي تعكس بُعداً سياسياً أكثر من كونها خطوات اقتصادية مدروسة. وقال إن العراق يواجه اليوم تحديات اقتصادية معقدة تتمثل في ارتفاع معدلات التضخم، واتساع العجز المالي، إلى جانب انخفاض أسعار النفط العالمية، ما يشكل ضغطاً هائلاً على المالية العامة التي تعتمد أكثر من 90% من إيراداتها على النفط.
وأضاف السعدي لـ"المدى" أن "أي توسع في التعيينات الحكومية سيؤدي بالضرورة إلى تضخم النفقات التشغيلية، خصوصاً في بند الرواتب الذي يُعد العبء الأكبر على الموازنة، الأمر الذي يعمّق العجز المالي ويقلص قدرة الدولة على توجيه مواردها نحو الاستثمار والإعمار والبنى التحتية".
وأوضح أن مثل هذا القرار قد يمنح الحكومة مكاسب سياسية آنية تتمثل في تهدئة الشارع وامتصاص جزء من البطالة، لكنه في المقابل يخلف كلفة اقتصادية ثقيلة على المدى الطويل، عبر تضخم الجهاز الإداري المترهل، وإضعاف فرص الإصلاح الهيكلي للاقتصاد.
وأشار السعدي إلى أن الاعتماد على التعيينات الحكومية كأداة لمعالجة البطالة يكرّس ثقافة ريعية بين الشباب الباحثين عن العمل، بدلاً من تشجيعهم على التوجه نحو القطاع الخاص أو ريادة الأعمال.
وبيّن أن البديل الأمثل يتمثل في تنشيط القطاع الخاص وجذب الاستثمارات لتوفير فرص عمل مستدامة دون تحميل الموازنة أعباء إضافية، مشدداً على أن استمرار الحكومة في الاعتماد على التعيينات، في ظل العجز وتراجع الإيرادات النفطية، يشكّل "معالجة مؤقتة" قد تزيد من تعقيد الأزمة مستقبلاً، وتنعكس سلباً على التصنيف الائتماني للعراق وعلى ثقة المستثمرين الدوليين في استقراره المالي.
التوظيف الحكومي: مكاسب سياسية آنية وكلفة اقتصادية باهظة!

نشر في: 28 أغسطس, 2025: 12:51 ص









