فخري كريم لم يجد الفكر التنويري مخرجاً في حقبة الإمبراطوريات والأنظمة الملكية، غير نحت مصطلح "المستبد العادل" لتمييز الملوك والأباطرة الذين ساسوا "رعاياهم" بقدر من "الرأفة والرحمة" مقارنة بالجبابرة الطغاة، حيث عرف عن أولئك ذوي "الرأفة والرحمة" اهتمامهم برعاية شؤون الزراعة والحرف وغيرها من المصالح، وبتصديهم لغزوات الأعداء، وتحقيقهم تقدماً مشهوداً في استنهاض بلادهم وفي تأمين استقرارها وضمان الأمن لرعاياها.
لقد ظل هذا المصطلح قيد التداول في منطقتنا، حتى انهيار الإمبراطورية العثمانية، وصعود حركات التحرر الوطني، ضد الكولنيالية والاستعمار. وقد عرف من بين هؤلاء، في تلك الحقبة، محمد علي الكبير في مصر ومدحت باشا في العراق.وبات واضحاً أن توصيف المستبد العادل، لم يكن يأخذ كأولوية، حدود العلاقة بين الحاكم والرعية، من حيث الحقوق والواجبات، وتنظيمها، إذ لم يكن على الرعية في واقع الحال، غير طاعة ولي الأمر. ووفقاً لمفاهيم عصرنا فان احترام الحريات والمبادئ الديمقراطية والقيم الإنسانية، لم تكن في أساس هذا التوصيف، قدر ما كانت "الرحمة والرأفة" تأتيان كمكرمة وأعطيات يهبها المستبد العادل حينما يشاء ومن دون قسر تشريعي يفرض ذلك عليه.ومع حلول مرحلة التحرر الوطني، في أوائل القرن الماضي، ونشوء الأحزاب الوطنية، والأحزاب العمالية والشيوعية في ما بعد، أصبح الانعتاق من النير الاستعماري وتصفية نفوذه في البلدان العربية، مهمة ملحة وهدفاً مباشراً لنضال جميع القوى السياسية، بغض النظر عن تمثيلها الطبقي ومرجعياتها الإيديولوجية، باعتبار ذلك هو السبيل لتحقيق الاستقلال الوطني الناجز، وإقامة الدولة المستقلة. وقد شهدت تلك المرحلة، خلطاً في المفاهيم وتعسفاً في التطبيقات السياسية، كانت نتائجها كارثية على شعوبنا العربية، من حيث مصادرة إراداتها وتهميش أدوار قواها الفاعلة، وتدمير طاقاتها الخلاقة وتبديد ثرواتها، والعودة بها إلى عهود الجاهلية والعزلة عن ركب الحضارة والتطور البشري.ولكن الكارثة الكبرى التي ألمّت بشعوبنا، وما تزال، لم تقتصر على تلك المصائب، وما اقترن بها من الخسائر في الأرواح والثروات، بل تعدتها إلى نماذج أنظمة الحكم، وأشباه الحكام، والسلطة السياسية الاستبدادية التي تمخضت عنهما. لقد فرضت المواجهة مع المستعمرين المدججين بالسلاح وأسباب القوة، اعتماد القوة كأداة لازمة في المقاومة والتحرر من هيمنة الاستعمار، وأدى هذا الخيار الموضوعي، في مرحلة لاحقة، إلى تعظيم الجيوش والقوات المسلحة، لتمكينها من حماية سيادة البلاد وصيانة استقلالها الوطني، ولكن هذا الدور سرعان ما ازداد وتفرد، بعد قيام إسرائيل، وتحول مواجهتها، وتحرير فلسطين، إلى هدف وطني وقومي لا يعلو عليه هدف، واستغل الحاكمون هذه الشعارات النبيلة التي أسرت الشعوب العربية، فصودرت حرياتها وغمطت حقوقها وكبلت بقوانين الطوارئ.rnالمقال كاملاً ص3
من المستبد العادل،إلى الوطني المستبد
نشر في: 11 مارس, 2011: 09:54 م