TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > لا تلوموا الضحية

لا تلوموا الضحية

نشر في: 12 ديسمبر, 2012: 08:00 م

إميل حبيبي، الأديب والسياسي الفلسطيني الراحل، ربما لم يعرف "التوافق" و" الرضا" و"الانسجام" في حياته. ومن أين تجيء اليه تلك الأشياء، وهو رجل من "عرب اسرائيل". أي من تلك المجموعة الفلسطينية التي بقيت داخل الخط الأخضر في اسرائيل، بعد قيامها، وسميت عرب 48.

انه بحكم الواقع إبن أقلية مغصوبة محكومة من أغلبية غاصبة حاكمة. وكان عليه أن يجد نفسه، وقسم غير قليل من عرب 48، على تعارض تام مع ابناء قومه من الفلسطينيين خارج الخط الأخضر، خاصة بعد قيام "الثورة الفلسطينية". فهو، مثلا، أحد قادة الحزب الشيوعي الاسرائيلي (راكاح)، وصار في وقت من الأوقات عضوا في الكنيست، بينما كان شعار الثورة الفلسطينية هو ابادة اسرائيل.

ويمكنك تصور مثل هذا التعارض الجذري بين عرب 48 وبين كل العرب الآخرين الذين لم يكن في وسعهم تصور أنواع النضال التي تخوضها تلك الأقلية، ولا تفهم منها عدا محاولتها الاندماج في الحياة السياسية الاسرائيلية، وهو ما يعد كفرا أو خيانة بنظر كل العرب. ومثل هذا التعارض الجذري، بل وأقسى منه، كان يوجد بين جزرته الشيوعية وبين محيطها الصهيوني.

كان شخصا حادا سليط اللسان. وكنتُ شاهدا ذات يوم على المدى المحرج، ولكن الذي في محله ايضا، على سلاطة لسانه. ولم يكن قلمه أقل حدة "عند الضرورة". ويبدو انه وجد مثل تلك "الضرورة" عندما طلب منه المرحوم سميح سمارة كتابة مقدمة لكتابه "تاريخ العمل الشيوعي في فلسطين". وكتب حبيبي مقدمة، خلص فيها الى ان بعض استنتاجات سمارة لا يمكن ان يخرج الا من رأس صهيوني متطرف أو بعثي عراقي!

تمتع حبيبي بعقلانية في الفكر، وحساسية مرهفة في التلقي والاستجابة. وظل كذلك الى آخر العمر. وقد انشق عن "راكاح"، واختلف معه اختلافا شديدا، وهو في تلك المرحلة الأخيرة من العمر. ولكم أن تتصوروا كيف يمكن أن تكون نوع العلاقة بين مفكر انساني واديب محتدم المزاج وبين محيطه الصهيوني والعربي الهائج.

ولقد باعدت الذاكرة بيني وبين أعماله الأدبية، مثل سداسية الأيام الستة، والمتشائل، ولكع بن لكع، فضلا عن العديد من مقالاته السياسية، وهي من طراز نادر. وكنت معجبا بأعماله، وقد عايشت بعضها نصا وعملا على خشبة المسرح، شأن "لكع" التي عرضت على احد مسارح دمشق مطلع الثمانينيات. ولجميعها طعم لا ينسى، شأن شخصيته. وما لا ينسى أيضا فيه، وما دعاني الى تذكره والتوقف عنده اليوم، هو "التعاطف" الذي كان "جذر" شجرة اميل حبيبي الوارفة.

كان الرجل مهيئا على الدوام ليكون ذئبا مفترسا مع "النخبة"، وهم اولئك الذين يؤثرون في الناس بأحد وجوه السلطان، من قوة وسيطرة ونفوذ وتحكم وغلبة وتفوق وقدرة على الأمر أو التوجيه، بسبب السياسة أو الدين أو المنصب أو العشيرة او الثقافة او المال. ولكنه كان أنعم من الحرير مع الضعفاء، مع الشعب "المكرود" الفقير الأعزل، ضحية "النخبة". وقد نسيت كل شيء من تفاصيل أدبه تقريبا. لكنني لم أستطع نسيان تلك اللازمة الساحرة التي تتكرر في مسرحية لكع بن لكع: "لا تلوموا الضحية، لا تلوموا الضحية": هنا، بهذا التعاطف، كان يتمركز قلب إميل حبيبي. هنا تلمس قدرته على الشعور بالضحية، ومشاركتها في معاناة ما تعانيه. وهنا تتجسد فيه "صحوة القلب"، هذه البَرَكة التي تجدب من دونها الأرض.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: براءة نور وتابعه هيثم !!

العمود الثامن: نشيد عالية وأخواتها!!

الذين يتمسحون بأذيال السيستاني

العمود الثامن: ألف حزب وحزب

العمود الثامن: من أين لك هذا ؟

العمود الثامن: في محبة المرأة

 علي حسين أصبح العالم اليوم مسكونًا بشيء اسمه المرأة، فلم يعد من الممكن تشكيل برلمان أو حكومة في أي بقعة من العالم من دون النساء، ذهب العصر الذي كانت تشكو فيه سيمون دو...
علي حسين

قناديل: اليسار الجديد: أصولية عابثة وعُصابٌ جمعي

 لطفية الدليمي تتكرّرُ على مسامعنا كثيراً عبارةٌ قالها (غوبلز) وزير الدعاية النازية: كلّما سمعتُ كلمة (الثقافة) تحسّستُ مسدّسي. اليوم صار كثير ٌ منا يتحسّسُ رائحة أزمة عالمية النطاق كلّما سمع مفردة (الجديد) ملحقةً...
لطفية الدليمي

قناطر: مسلسل معاوية... جرُّ القناعات الى مسلخ الأوهام

طالب عبد العزيز مع أنَّ كلَّ تعريف للتأريخ يرجع الى وجوب توافر الوثيقة، إذْ لا تأريخ بدون وثيقة، إذْ أنه الأحداث والوقائع التي تقدّمها لنا الوثائق والمصادر، كما تعرف كلمة 'التاريخ' في اللغة العربية...
طالب عبد العزيز

جامعة بغداد، منارة العلم والمعرفة في قلب العراق

محمد الربيعي جامعة بغداد صرح علمي شامخ، واحد ابرز منارات المعرفة في العراق والعالم العربي. تاسست عام 1957، لكن جذورها تمتد الى بدايات القرن العشرين مع تاسيس كليات الحقوق والطب والهندسة. لعبت الجامعة دورا...
د. محمد الربيعي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram