ضحى عبدالرؤوف المل
تجسد رواية "دم الثور" لوحة سردية تنبض برموز مختبئة تحت طبقات التاريخ والذاكرة، حيث يتحول الدم من عنصر مادي إلى إشارة رمزية تمثل الألم والهوية الممزقة. تتقاطع هذه الرؤية مع أعمال الفنان التشكيلي "ضياء العزاوي"، الذي يستخدم اللون والخط ليعبّر عن انكسار الإنسان وحيرته في ظل ظروف مأساوية. إذ تتشارك الرواية ولوحات الفنان العراقي "ضياء العزاوي" في استحضار حالة الانهيار والتشظي، فالأحداث التي تدور في أماكن مغلقة أو رمزية، تستحضر أجواء التوتر الداخلي والبحث عن معنى وسط الخراب. الدم هنا ليس فقط مادة جسدية، بل لغة صامتة تحكي عن معاناة مستمرة، وعن إرث لا يُمحى رغم المحاولات القسرية للنسيان. كما تتحول الرموز كالثور أو الجسد المشوه إلى علامات بصرية ولغوية تعكس تجربة إنسانية شديدة العمق، تستنطق الذاكرة الفردية والجماعية معاً. لذلك، يمكن اعتبار الرواية واللوحات التشكيلية امتداداً لبعضهما، كلاهما يشكلان سرداً بصرياً وكتابياً واحداً ينطق بلغة الألم والجمال في آنٍ معاً.
في زمنٍ تتشظى فيه الهويات وتتآكل الذاكرة تحت عجلات الحروب والأساطير المنسيّة، تظهر الأعمال الأدبية والفنية الكبرى لا كمرآة للواقع، بل كأصواتٍ سرية تستعيد ما نُسي، وتقاوم ما يُراد دفنه في ركام الزمن. في رواية "دم الثور"التي تمزج بين التأريخ، والانثروبولوجيا، والسياسة، والحفر في المسكوت عنه. يتحول النص الروائي إلى ما يشبه لوحة تشكيلية، تتقاطع فيها اللغة مع الرماد، والمجاز مع الحقيقة الغائبة، تماماً كما تفعل لوحات ضياء العزاوي، الفنان العراقي الذي حمل جراح العراق وشتاته في ريشته، فصار صوته البصري معادلًا للصرخة السردية.
فرضت علىّ رواية دم الثور للروائي التونسي " نزار شقرون" أن أتأمل لوحات "ضياء العزاوي" التي لطالما تأملتها لكن أن تجذبك رواية نحو لوحة فهذا يعني أن كل من الروائي والفنان هما الفكر نفسه الذي يتناول "دم الثور" بوصفه عملًا أدبياً يحتمل التأويل البصري حتى لتشعر أنك داخل معرض فني تشكيلي عنوانه دم الثور، ويضعنا هذا في حوار عميق مع إحدى لوحات ضياء العزاوي التي تتمحور حول العنف، الذاكرة، والانهيار الحضاري، مثل "جداريات العراق" أو لوحاته الأكثر شهرة والتي تنتمي إلى مذبحة صبرا وشاتيلا وحتى لوحة الصرخة. فالرواية ولوحة الصرخة تحديداً يبدوان كجناحين لطائرٍ واحد، محكوم بالتحليق فوق خرائب الهوية، والبحث عن معنى في زمن بلا يقين. فهل دمٌ الثور هو دم رمزيّ أم لغة مقموعة؟
دم الثور" في الرواية ليس دماً حرفياً. إنه رمز مركّب يتكثف فيه التاريخ المكبوت (مثل دم ابن المقفع الغائب خلف باب مفقود من "كليلة ودمنة") و الضحية الخرساء (من مذبحة إلى أخرى، من بغداد إلى البصرة) والإنسان المشطور بين الشرق والغرب، بين كارمن ومحاكم التفتيش، بين الأعظمية والموصل وقرطبة...إنه دم لا يلطّخ الأرض، بل ينضح من بين السطور، كما لو أن الرواية تقول: "الحقيقة لا تُروى، بل تُبكَى".
في مشهد المطعم الدوار، عندما يقول الراوي: " الواسطي هو دم الثور بلحمه وشحمه، وأن دم الثور ما هو إلا مجاز أحجية"، نلمس لحظة انبجاس الرمز من قلب الواقع. هنا يتكشّف الفن عن ما لا تستطيع السياسة قوله: إنّ الإنسان العراقي المعاصر صار مجرد مجازٍ، ظلّ، طيف، مثل لوحة معلّقة في فراغ. فهل يصير اللون صوتاً بين نزار شقرون وضياء العزاوي؟
ضياء العزاوي هو "كاتب بصري" أكثر من كونه رساماً. لوحاته لا تُشاهَد فقط، بل تُقرأ مثل قصائد، أو مثل صرخات قديمة تعود في هيئة أشكالٍ مشوهة. في أعماله التي تأريخ للحرب، مثل "جداريات العراق" أو لوحته المؤثرة "المجزرة أو المذبحة"، تتكرّر فيها ثيمات الأجساد المشظاة والكتابة المهشّمة والرموز الحيوانية (ثيران، غربان، خيول)، في إشارة دائمة إلى الغريزة والدم والبقاء. ولوحات أخرى على سبيل المثال، تُظهر جسداً متحولًا إلى خط، إلى أثر، إلى شبحٍ لذاته، تماماً كما تحوّل ضحايا الرواية إلى أصوات تائهة، مثل أولئك الأطفال المشوهين الذين ولدوا بعد القصف الإشعاعي. الثور في العزاوي ليس حيواناً فقط، بل هو الضحية العاقلة، الإنسان الذي يعرف ذبحه القادم. فماذا بين المطعم الدوّار واللوحة المعلّقة؟
في المشهد المحوري للرواية، حين يدخل الأبطال إلى المطعم الدوار في برج صدام، ويشاهدون بغداد من فوق، تتجلى المفارقة الكبرى حيث المدينة كمنظر بانوراميّ جميل، ولكنها في الداخل نازفة، مشوّهة، محاصرة. كأن الرواية تقول ها نحن في عالمٍ يدور، لكن الحقيقة ثابتة في المركز، مخنوقة.
في لوحات العزاوي، تظهر بغداد لا كمدينة، بل كـ"أثر حضاريّ مضروب بالقصف". تخرج الألوان من حواف اللوحة مثل نحيبٍ بصريّ. المشاهد في الرواية تُقرأ كأنّها لوحات للعزاوي في مطعمٌ فخم يختلط فيه العطر بالدم، امرأةٌ تشبه الراهبة ولكنها محمّلة بتاريخٍ لا مرئي، رجلٌ يبحث عن باب مفقود في كتاب مخلوع. فهل التاريخ بوصفه رفاتاً فنّياً يشترك بين الأدب والفن؟
كلا العملين، رواية دم الثور ولوحة معاناة رجل التي أخذتني معها نحو سعدي، يتعاملان مع التاريخ لا كوقائع، بل كـ"بقايا رماد": الرواية في سردها تحكي عن النسخة الأصلية المفقودة من "كليلة ودمنة"والعزاوي يرسم الشهيد الغائب، أو الوجه المسحوق، أو الجدار الذي لا يملك شاهداً وبين الإثنين، تقف الأسطورة كمفتاح تأويليّ في الرواية نشعر أن ابن المقفع، كليلة ودمنة، الباب المفقود في العزاوي نشعر أن الثور، الشهيد، الكتاب المفتوح المغلّف بالدماء كأن العملين يقولان لنا: إنّ فهم الحاضر، لا يتمّ إلا عبر النبش في الرموز، في الفجوات، في الدم المنسيّ. فهل يجذبنا العزاوي والروائي نزار شقرون نحو جمالية الكارثة؟
في زمن ما بعد الحقيقة، تبدو الحاجة إلى الفن والأدب ليست ترفاً، بل ضرورة وجودية. "دم الثور" ليست مجرد رواية نقرأها وننساها، كما أن لوحات ضياء العزاوي ليست زينة للمعارض نراها وننساها. الاثنان يصرخان، ولكن بلغتين مختلفتين. ومع ذلك، فإن من ينصت جيداً، سيكتشف أن الصوت واحد: صوت الإنسان وهو يُنحر على مذبحة النسيان.
"اهتمامك بالحقيقة هو الذي جاء بك إلى هنا... أحياناً تكون إلى جانبك فلا تراها من شدّة الحماس للبحث." ولوحة العزاوي تهمس في نفس المتلقي "أنا مرآتك، ولكنك لا تجرؤ على النظر."
" دم الثور" بين السرد واللون وبين نزار شقرون وضياء العزاوي

نشر في: 3 سبتمبر, 2025: 12:01 ص









