الدكتور محمد حماد
في الذاكرة الشعبية العراقية، كلمة (شوباش) ليست مجرد هتاف عابر غالبا ما يُسمع في زفة العرس، بل طلقة بهجة مدروسة، يطلقها صاحب الطبل أو البوق في لحظة ذروة، ليوقظ الجالسين ويحرّك الأيادي نحو الجيوب، فيتحوّل الفرح إلى مزاد، والنقود إلى طيور صغيرة تحلّق نحو أيدي العازفين. صيحة تجمع بين الفن والتجارة، بين الحماسة والغاية العملية، لتتحول اللحظة إلى مزاد فرح يتسابق فيه الحضور على منح النقود للفرقة الموسيقية الشعبية، حتى يصبح العرس نفسه تجارة صاخبة متنكّرة في هيئة رقصة جماعية.
لكن ما عاد اليوم حِكرا على ساحات العُرس، إذ اندسَّ اليوم بحذاء مخملي وصوت مكتوم، متخفّيا بكامل عُدّته وعتاده إلى خشبات المسرح، متواريا في رمزيّة لا تخطئها العين. إذ صار لدينا اليوم ما يمكن أن نسميه بـ(الشوباش المسرحي)؛ يعلن عن حضوره السافر في بعض العروض المسرحية.... صيحة غير مسموعة، لكنها فعّالة لدرجة مذهلة؛ فهي من تزلزل مزامير التحليل الفني وتفجر ينابيع النقد السخي. وحالما تدوّي تلك الصرخة المتوارية بعد أن ينتهي العرض المسرحي، حتى تتهاوى أبواب الصحف كأبواب الحانة، وتُفتح المواقع الإلكترونية كما تُفتح خزائن العرسان، لينهمر سيل المقالات المدهوشة بغزارة لا تكاد تنضب، حتى ليُخيّل إليك أن النقاد لم يغادروا مقاعدهم أبدا، بل ظلوا يراقبون العرض من خلف الستار، كأنهم يعيدون تقديمه من جديد، ولكن هذه المرّة على صفحات الورق. يواصلون هناك رقصتهم التعبيرية، ليست على خشبة المسرح، بل بين السطور، وكأن إعجابهم السافر بما شاهدوه يُجبرهم على إبقاء العرض مستمرا رغم إسدال الستار.
إنه لمن المنظر المهيب أن تتزاحم أصوات النقد حول أي عرض مسرحي، لكن الغصّة تكمن بين السطور؛ فأغلب ما يُكتب لا يستند إلى أسس فنية رصينة، ولا يرتكز على منهج علمي متين أو رؤية تجريبية فاحصة، بل يُبنى على قاعدة قديمة يعرفها جيدا عازفو الأعراس (اصرخ شوباش بصوت كاف، يتسابق الكرماء عليك) حينها، ينهمر سيل من الكتابات على وسائل الإعلام كما تنهمر النقود على الفرقة الشعبية بعد (الشوباش) الحقيقي في العرس، وهنا يتحول النقد إلى استنساخ كسول، مقالات يمكن تبديل أسماء أبطالها وعناوينها فتصلح لأي عرض، كأنها بطاقات تهنئة عامة، صالحة للاستهلاك لسنوات طوال.
أما العروض التي لا يعرف أصحابها (السّر) ولا يجيدون هذه الصرخة السحرية، فمصيرها أن تكتفي بابتسامات الأصدقاء وعبارات التشجيع الباهتة؛ من أولئك الذين لا يعرفون من النقد سوى كلمات تُطبع بجانب صورة الممثل في الصحف؛ لا يملكون القدرة على صياغة مجاملة نقدية لائقة، وليس أمامكم يا أصحاب هذه العروض إلا أن تلتمسوا لهم العذر، فهم محترفو حضور فقط، عاجزون عن كتابة مقال واحد، حتى لو سلبي، فضلا عن أنهم يجهلون قواعد لعبة (الشوباش) المسرحية. والألم يتضاعف حين يأتي هذا (الشوباش) من أهل الاختصاص، حملة الشهادات العليا والأساتذة الجامعيين، الذين يُفترض أنهم يملكون بوصلة نقدية فنية دقيقة. فحين يصبّون مديحهم في أطر مقالية ثابتة، يتحول النص إلى حصانة أكاديمية، ومرجعية يُقتدى بها لطلاب الفنون، فيتعلم الجيل الجديد - دون وعي - أن ذروة الإبداع تكمن في تلك العروض المتواضعة، فيتخذوها سقفا للطموح الإبداعي بدلا من أن تكون خطوة عابرة في طريق التطوير الفني، ليصبح السقف الذي كان بداية المسير نهاية مأساوية لمسار الإبداع.
وهكذا تتحول بعض العروض المسرحية إلى عرس أبدي؛ فريق العمل فيها يعزف على طبول الرتابة، وبعض النقاد ينفخون في أبواق المديح الأجوف، والجمهور يكتفي بالمشاهدة الحيادية، فيما تتطاير الجوائز المعنوية نحو من يحسن الصراخ لا من يُبدع بحق. تماما كما يخلق (الشوباش) في الأعراس مزادا تنافسيا على الكرم المادي، يُطلق (الشوباش المسرحي) مزاد الحماسة المفتعلة، حتى تصبح القيم الفنية المتواضعة معيارا، وتُهمش الأعمال الجادة التي لا تلمّ بسرّ الصرخة الساحرة.
الخطر لا يكمن في (الشوباش) ذاته، بوصفه هتاف فرح عابر، بل في تحوّله إلى معيار نقدي يُقاس به قيمة العمل الفني الإبداعي، حيث تُقدّر قيمة العرض بعدد المقالات التي تشيد بجودته وتتغنى بجماله، لا بصلابة نصّه، ولا بعمق أداء ممثليه، ولا بوقعه في وجدان المتلقي. هنا تتجلى المشكلة، إذ يتحوّل هذا البناء النقدي إلى أداة تعيد رسم خارطة عروض المسرح على أساس المجاملة لا على أركان النقد البنّاء. وكما يملأ (الشوباش) في الأعراس جيوب العازفين، يملأ (الشوباش المسرحي) ملفات بعض العروض بمديح يتجاوز كل تقييم موضوعي، حتى تكاد لا ترى صناعة مسرح، بل صناعة حفل زفاف لا ينتهي. وحينها يكون النقد قد ساهم في تأسيس فن يتغذى على الاستكانة والتطبيل، لا على الإثارة والتجديد؛ فن يخشى التغيير المجتمعي كما يخشى الممثل أن يخرج من دائرة الضوء.
وفي الختام، إذا كان المسرح سيظل ينتظر صيحة (شوباش) كي يحيا، فلماذا لا نوفر عناء الإضاءة والنصوص؟ لنلتقِ جميعا على منصة واحدة، نهتف لبعضنا بصوت واحد (شوباش... شوباش!)، ونؤسس مهرجانا عالميا لفن التطبيل الذاتي، حيث يصفّق المسرحيون لأنفسهم حتى النفس الأخير. ومهما بدى هذا الطرح قاسيا، فهو في جوهره دعوة صادقة للقارئ لإعادة النظر بواقعية في حال النقد والمسرح، وتأمل المسار الفني الإبداعي الذي نسلكه.
وجهة نظر: الشوباش المسرحي.. حين يتحوّل المسرح إلى قاعة زفاف ويتحول النقد إلى بوق

نشر في: 3 سبتمبر, 2025: 12:02 ص









