لطفية الدليمي
. تذكرت كتاب (ليس في جيناتنا Not In Our Genes) الذي كتبه عالم الاعصاب البريطاني ستيفن روز Steven Rose عندما تناقلت وسائل الاعلام البريطانية قبل شهور خبر وفاته، وهو الكتاب الذي ترجم الى العربية وصدر عن سلسلة (عالم المعرفة) بالعنوان الثانوي له (علم الاحياء والايديولوجيا والطبيعة البشرية).
يقودنا العنوان الاصلي للكتاب (ليس في جيناتنا) على الفور إلى موضوعة الحتمية الجينية والمتعلّقات التي تترتّبُ عليها في كلّ الأصعدة.
كان هذا الكتاب فريداً في طبيعة موضوعاته المثيرة وعناوين فصوله، وهو ما دفعني إلى متابعة أعمال مؤلّفه البروفسور روز الذي غالباً ما نشر أعماله بمشاركة زوجته هيلاري روز Hilary Rose. لا أظنُّ أنّ موضوعة الحتمية الجينية ستُحسَمُ في مستقبل قريب. ربما المثال الأقرب إلى التناقض الصارخ في آراء العلماء والمختصّين هو كتاب العالم السلوكي روبرت سابولسكي Robert Sapolsky، أستاذ جامعة ستانفورد الذي إختار عنوان محتّم Determined لكتابه المنشور قبل ما يقارب السنة. الأمر ليس علماً محضاً. إنّه علم مدفوع بضغوط أو إنحيازات سياسية أو آيديولوجية. سنكون مفرطين في المثالية المحلّقة لو إفترضنا أنّ العلماء محكومون بأخلاقيات منزّهة عن سطوة السياسة أو اشتراطات الآيديولوجيا.
اتّبع روز نهجاً اختزاليّاً واسع النطاق في أبحاثه حول الآليات الكيميائية الحيوية للذاكرة، وفي الوقت نفسه تبنى موقفاً سياسيّاً بارزاً بالضدّ من فكرة أنّ السلوك البشري تُحدّده جيناتنا. ساهم روز، بصفته أوّل أستاذ أحياء اختير للتدريس في الجامعة المفتوحة Open University - وهي مؤسسة التعليم عن بُعد Distant Learning التي تأسست بمبادرة حكومية من حزب العمال البريطاني عام 1969- في ريادة نهج ديمقراطي لتدريس العلوم العملية. كما ساهم روز المعروف بحماسه وروحه القتالية وفصاحته في نقاشات معمّقة مع زملائه العلماء. في سبعينيات القرن الماضي تحدّى روز فكرة أن اختبارات الذكاء IQ- التي كانت مُعْتَمَدة على نطاق واسع آنذاك في التعليم والتوظيف - تقيس "الذكاء العام" المُحدّد وراثيّاً. دارت هذه النقاشات، وما تلاها من نقاشات مستفيضة، في نطاق ثقافي أوسع من المعتاد في معظم النقاشات العلمية، مدفوعةً بسلسلة من الكتب الشهيرة.
كان من أبرز مُناوئي روز عالم الحشرات إدوارد أو. ويلسون Edward O. Wilson، مؤلف كتاب "البيولوجيا الإجتماعية Sociobiology"، ومُنظّر البيولوجيا التطوّرية ريتشارد دوكينز Richard Dawkins، مؤلف كتاب "الجين الأناني The selfish Gene"، الذي انضم إليه لاحقاً عالم الأعصاب الإدراكي ستيفن بنكر Steven Pinker أستاذ هارفرد.
*****
رأى روز في فكرة "أنّ جذور السلوك الإجتماعي البشري قد غُرِسَتْ من خلال عملية الإنتقاء الطبيعي لخدمة إدامة جيناتنا"هي فكرة متهافتة. لم يُشكّك في نظرية التطور الداروينية كقوة دافعة في علم الأحياء؛ غير أنه جادل من منظور ماركسي بأنّ التاريخ والمجتمع لا يقلّان أهمية عن الجينات البشرية في تحديد طبيعة الأفعال البشرية.
في عام ١٩٨٤ شارك روز في تأليف كتاب "ليس في جيناتنا: علم الأحياء، والأيديولوجيا، والطبيعة البشرية"، بالإشتراك مع عالم الوراثة الأمريكي ريتشارد ليونتين وعالم النفس ليون كامين. قدّم الكتاب نقداً لاذعاً لأطروحات البيولوجيا الإجتماعية والحتمية الجينية، بل ذهب أبعد من ذلك في إلقاء اللوم على هذه الآراء في فشلنا المزمن ببلوغ مجتمع أكثر عدلاً. قوبل الكتاب بآراء متباينة، بما في ذلك الإشارةُ إلى أنّ روز وزملاءه قد حرّفوا آراء معارضيهم؛ لكن برغم هذا لم يتراجع روز عن موقفه أبداً. بعد أكثر من عقد على نشر كتاب (ليس في جيناتنا) أعاد روز في كتابه "خطوط الحياة Life Lines"، المنشور عام 1997، صياغة حججه، مسلطاً الضوء على الأحداث الإرتقائية والبيئية التي تحدث طوال الحياة لكلّ فرد منّا، والتي ليست بطبيعتها مُحددة بصورة مسبّقة، ولكنْ من خلالها يُنظّم الكائن الحي نفسه ليصبح فرداً مميّزاً وفريداً من نوعه. كتب روز في هذا الشأن: "من طبيعة الأنظمة الحية أن تكون غير محددة تماماً، وأن تبني باستمرار مستقبلها الخاص، وإن كان ذلك في ظروف ليست من اختيارنا". واضح أنّها رؤية تعزّز قناعة روز في مناكفته للحتمية الجينية.
كان روز كاتباً آيديولوجياً لا يستطيع الفكاك من ميوله الماركسية، تتدفق كلماته في الكتابة بسهولة كما تتدفّق في الحياة الواقعية، جامعاً بين العلم والمجتمع والسياسة في مركّب معقّد واحد. أتاحت منحة دراسية لروز دراسة العلوم الطبيعية في كلية كينغز بجامعة كامبريدج، حيث كان ينوي في البداية التخصص في الكيمياء؛ لكنّه وجد نفسه في بيئة تعجّ بالإكتشافات الجديدة في الكيمياء الحيوية، بما في ذلك الحلزون المزدوج The Double Helix للحمض النووي الذي اقترحه جيمس واتسون James Watson وفرانسيس كريك Francis Crick في بدايات العقد الخمسيني من القرن العشرين. التقى روز بِـ (هيلاري تشانتلر) وهي طالبة ناضجة أرملة كانت تدرس علم الإجتماع في كلية لندن للإقتصاد عام ١٩٦٠، وتزوّجا في العام التالي. منذ ذلك الحين تشارك الزوجان الرؤية الآيديولوجية والمتبنيات العلمية.
كان العمل السياسي والإحتجاج جزءاً أصيلاً من حياة روز منذ طفولته؛ فقد تعرّض لهجوم من راشقي الحجارة الفاشيين في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، وشارك في معارك ضارية مع الشرطة البريطانية أثناء تظاهره ضد غزو السويس وهو لم يزل طالباً جامعياً. شكّل ستيفن وهيلاري شراكة وثيقة، شخصية ومهنية: شاركته هيلاري في تأليف العديد من كتبه، وكانا عضوين مؤسسين في الجمعية البريطانية للمسؤولية الإجتماعية في العلوم.
لم تكن مشاركة هيلاري لزوجها في عمله العلمي ناتجة عن رغبة مجرّدة في المشاركة؛ بل جاءت في سياق عملها العلمي. عملت هيلاري أستاذاً للسياسة الإجتماعية في جامعة برادفورد البريطانية، مع اهتمام خاص بعلم اجتماع العلوم، واتّحد الزوجان في نشاطهما السياسي (الماركسي على نطاق واسع، ولكنه لم يكن مؤيداً للسياسة الشيوعية السوفييتية) في قضايا مثل حرب فيتنام، والسيطرة على الأسلحة الكيميائية والبيولوجية.
بعد بداية متعثرة كباحث ما بعد الدكتوراه في جامعة أكسفورد، والتي وجد بيئتها رجعية خانقة، أمضى روز خمس سنوات (١٩٦٤-١٩٦٩) في كلية إمبريال كوليدج لندن. في عام ١٩٦٩ انضمّ إلى الجامعة المفتوحة حيث أسّس قسم علوم الحياة من الصفر، وأسّس، انطلاقاً من المبادئ الأولى، كيفية تدريس العلوم من خلال مزيج من الدراسة المنزلية والتجربة، والبرامج التلفزيونية، والمدارس الصيفية. كانت تلك سياسة تعليمية جديدة ثورية الطابع في البيئة الإنكليزية المحافظة.
تقاعد روز في عام ١٩٩٩؛ لكنه احتفظ بمختبره، واستمر في إجراء البحوث لأكثر من عقد، كما ظلّ مواظباً على الكتابة النشيطة التي توّجها بالعديد من الكتب الممتازة عن الدماغ البشري والعلوم العصبية.
*****
قد نختلف مع ستيفن روز في رؤاه؛ لكن ليس بمستطاعنا نكرانُ الأفق الإنساني الواسع لكتاباته. ليس ثمّة مشتغلٌ بالعلم يستطيع مواصلة العيش في كبسولة مشيّدة بجدران مضادة للآيديولوجيا أو السياسة. إنّهما كالهواء الذي نتنفّس، توجدان في كلّ مكان وزمان. حسبُهُ أن لا يعمل على جعل تلك الآيديولوجيا أو السياسة منتجة لعلم زائف، وأن لا يستبدل التوجّه الإنساني للعلم بتوجّهات مضادة للإنسانية أينما كانت وكيفما كانت. في هذا الشأن أستطيع القول بثقة معقولة أنّ ستيفن روز غادر عالمنا بضمير غير مثقل بأيّ من مثالب الآيديولوجيا أو ألاعيب السياسة، وهذا إمتيازٌ قد يعسر نَيْلُهُ في عالمنا المعاصر.
جيناتنا بين السياسة و الايديولوجيا

نشر في: 3 سبتمبر, 2025: 12:03 ص









